تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ١٨٥
* (فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) * أي: لتاب عليهم بمغفرته ظلمهم، ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها، والثواب عليها. وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مختص بحياته؛ لأن السياق يدل على ذلك، لكون الاستغفار من الرسول، لا يكون إلا في حياته. وأما بعد موته، فإنه لا يطلب منه شيء، بل ذلك شرك. ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة، أنهم لا يؤمنون، حتى يحكموا رسوله، فيما شجر بينهم أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف. بخلاف مسائل الإجماع، فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة. ثم لا يكفي هذا التحكيم، حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض. ثم لا يكفي هذا التحكيم، حتى يسلموا لحكمه تسليما، بانشراح صدر، وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاهر والباطن. فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان. فمن استكمل هذه المراتب، وكملها، فقد استكمل مراتب الدين كلها. ومن ترك هذا التحكيم المذكور، غير ملتزم له فهو كافر. ومن تركه مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين. * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لآتيناهم من لدن آ أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما) * يخبر تعالى، أنه لو كتب على عباده، الأوامر الشاقة على النفوس، من قتل النفوس، والخروج من الديار، لم يفعله إلا القليل منهم والنادر. فليحمدوا ربهم، وليشكروه، على تيسير ما أمرهم به، من الأوامر التي تسهل على كل أحد، ولا يشق فعلها. وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي، أن يلحظ العبد، ضد ما هو فيه، من المكروهات، لتخف عليه العبادات، ويزداد حمدا وشكرا لربه. ثم أخبر أنهم لو فعلوا ما يوعظون به، أي: ما وظف عليهم، في كل وقت بحسبه، فبذلوا هممهم، ووفروا نفوسهم للقيام به وتكميله، ولم تطمح نفوسهم لما لم يصلوا إليه، ولم يكونوا بصدده، وهذا هو الذي ينبغي للعبد، أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها، فيكملها، ثم يتدرج شيئا فشيئا، حتى يصل إلى ما قدر له، من العلم والعمل، في أمر الدين والدنيا. وهذا بخلاف من طمحت نفسه إلى أمر لم يصل إليه، ولم يؤمر به بعد، فإنه لا يكاد يصل إلى ذلك بسبب تفريق الهمة، وحصول الكسل، وعدم النشاط. ثم رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة أمور: أحدها الخيرية في قوله: * (لكان خيرا لهم) * أي: لكانوا من الأخيار المتصفين بأوصافهم، من أفعال الخير، التي أمروا بها. أي: وانتفى عنهم بذلك صفة الأشرار، لأن ثبوت الشيء، يستلزم نفي ضده. الثاني حصول التثبيت والثبات وزيادته، فإن الله يثبت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان، الذي هو القيام بما وعظوا به. فيثبتهم في الحياة الدنيا، عند ورود الفتن في الأوامر، والنواهي، والمصائب. فيحصل لهم ثبات، يوفقون به لفعل الأوامر، وترك الزواجر، التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب، التي يكرهها العبد. فيوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا، أو الشكر. فينزل عليه معونة من الله، للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين، عند الموت وفي القبر. وأيضا فإن العبد القائم بما أمر به، لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية، حتى يألفها، ويشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات. الثالث قوله: * (وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما) * أي: في العاجل والآجل، الذي يكون للروح والقلب، والبدن، ومن النعيم المقيم، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الرابع الهداية إلى صراط مستقيم. وهذا عموم بعد خصوص، لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم، من كونها متضمنة للعلم بالحق، ومحبته وإيثاره به، والعمل به، وتوقف السعادة والفلاح، على ذلك. فمن هدي إلى صراط مستقيم، فقد وفق لكل خير، واندفع عنه كل شر وضير. * (ومن يطع الله والرسول فأول ئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أول ئك رفيقا * ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما) * أي: كل من أطاع الله ورسوله على حسب حاله، وقدر الواجب عليه، من ذكر وأنثى وصغير وكبير. * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) * أي: النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلاح، والسعادة. * (من النبيين) * الذين فضلهم الله بوحيه، واختصهم بتفضيلهم، بإرسالهم إلى الخلق،
(١٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 180 181 182 183 184 185 186 187 188 189 190 ... » »»