فقد افترى إثما عظيما) * أي: افترى جرما كبيرا. وأي ظلم أعظم ممن سوى المخلوق من تراب، الناقص من جميع الوجوه، الفقير بذاته من كل وجه. الذي لا يملك لنفسه فضلا عمن عبده نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا بالخالق لكل شيء الكامل من جميع الوجوه، الغني بذاته، عن جميع مخلوقاته، الذي بيده النفع والضر، والعطاء والمنع، الذي ما من نعمة بالمخلوقين، إلا منه تعالى. فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ ولهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب * (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) *. وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب. وأما التائب، فإنه يغفر له الشرك فما دونه، كما قال تعالى: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) * أي: لمن تاب إليه، وأناب. * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا * انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا) * هذا تعجب من الله لعباده، وتوبيخ للذين يزكون أنفسهم، من اليهود والنصارى، ومن نحا نحوهم، من كل من زكى نفسه، بأمر ليس فيه. وذلك أن اليهود والنصارى يقولون: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (ويقولون) * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * وهذا مجرد دعوى، لا برهان عليها. وإنما البرهان، ما أخبر به في القرآن في قوله: * (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *. فهؤلاء هم الذين زكاهم الله، ولهذا قال هنا: * (بل الله يزكي من يشاء) * أي: بالإيمان والعمل الصالح، بالتخلي عن الأخلاق الرذيلة، والتحلي بالصفات الجميلة. وأما هؤلاء، فهم وإن زكوا أنفسهم بزعمهم، أنهم على شيء، وأن الثواب لهم وحدهم فإنهم كذبة في ذلك، ليس لهم من خصال الزاكين نصيب، بسبب ظلمهم وكفرهم، لا بظلم من الله لهم، ولهذا قال: * (ولا يظلمون فتيلا) *. وهذا لتحقيق العموم، أي: لا يظلمون شيئا، ولا مقدار الفتيل الذي في شق النواة، أو الذي يفتل من وسخ اليد وغيرها. قال تعالى: * (انظر كيف يفترون على الله الكذب) * أي: بتزكيتهم أنفسهم، لأن هذا من أعظم الافتراء على الله. لأن مضمون تزكيتهم لأنفسهم، الإخبار بأن الله جعل ما هم عليه حقا، وما عليه المؤمنون المسلمون باطلا. وهذا أعظم الكذب، وقلب الحقائق، بجعل الحق باطلا، والباطل حقا. ولهذا قال: * (وكفى به إثما مبينا) * أي: ظاهرا بينا، موجبا للعقوبة البليغة، والعذاب الأليم. * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أول ئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا * أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا * أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينآ آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما * فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا * إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما * والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا لهم فيهآ أزواج مطهرة وندخلهم ظ لا ظليلا) * وهذا من قبائح اليهود، وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أن أخلاقهم الرذيلة، وطبعهم الخبيث، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله، أو حكم بغير شرع الله. فدخل في ذلك، السحر والكهانة، وعبادة غير الله، وطاعة الشيطان، كل هذا من الجبت والطاغوت. وكذلك حملهم الكفر والحسد، على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله، عبدة الأصنام، على طريق المؤمنين فقال: * (ويقولون للذين كفروا) * أي: لأجلهم، تملقا لهم ومداهنة، وبغضا للإيمان: * (هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) * أي: طريقا. فما أسمجهم، وأشد عنادهم، وأقل عقولهم وكيف سلكوا هذا المسلك الوخيم، والوادي الذميم؟ هل ظنوا أن هذا، يروج على أحد من العقلاء، أو يدخل عقل أحد من الجهلاء. فهل يفضل دين، قام على عبادة الأصنام والأوثان، واستقام على تحريم الطيبات، وإباحة الخبائث، وإحلال كثير من المحرمات، وإقامة الظلم بين الخلق، وتسوية الخالق بالمخلوقين، والكفر بالله، ورسله، وكتبه، على دين قام على عبادة الرحمن، والإخلاص لله، في السر والإعلان والكفر بما يعبد من دونه، من الأوثان، والأنداد، والكاذبين، وعلى صلة الأرحام، والإحسان، إلى جميع الخلق، حتى البهائم، وإقامة العدل والقسط بين الناس، وتحريم كل خبيث وظلم، ومصدق في جميع الأقوال والأعمال فهل هذا إلا من الهذيان. وصاحب هذا القول، إما من أجهل الناس، وأضعفهم عقلا، وإما من أعظمهم عنادا وتمردا، ومراغمة للحق.
(١٨٢)