تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ١٨٧
فلهذا أمر هؤلاء، بالإخلاص، والخروج في سبيله فقال: * (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) *. هذا أحد الأقوال في هذه الآية، وهو أصحها. وقيل: إن معناه، فليقاتل في سبيل الله، المؤمنون الكاملو الإيمان، الصادقون في إيمانهم. * (الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) * أي: يبيعون الدنيا، رغبة عنها، بالآخرة رغبة فيها. فإن هؤلاء الذين يوجه إليهم الخطاب، لأنهم، الذين قد أعدوا أنفسهم، ووطنوها على جهاد الأعداء لما معهم من الإيمان التام، المقتضي لذلك. وأما أولئك المتثاقلون، فلا يعبأ بهم، خرجوا أو قعدوا. فيكون هذا، نظير قوله تعالى: * (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا) * إلى آخر الآيات. وقوله: * (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) *. وقيل: إن معنى الآية: فليقاتل المقاتل والمجاهد للكفار، الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. فيكون على هذا الوجه (الذين) في محل نصب على المفعولية. * (ومن يقاتل في سبيل الله) * بأن يكون جهادا، قد أمر الله به ورسوله، ويكون العبد مخلصا لله فيه، قاصدا وجه الله. * (فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * زيادة في إيمانه ودينه، وغنيمة، وثناء حسنا، وثواب المجاهدين في سبيل الله الذين أعد الله لهم في الجنة، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنآ أخرجنا من ه ذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) * هذا حث من الله لعباده المؤمنين، وتهييج لهم على القتال في سبيله وأن ذلك، قد تعين عليهم، وتوجه اللوم العظيم عليهم بتركه فقال: * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) * والحال أن المستضعفين من الرجال، والنساء، والولدان، الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا ومع هذا، فقد نالهم أعظم الظلم من أعدائهم. فهم يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها لأنفسهم، بالكفر، والشرك، وللمؤمنين بالأذى، والصد عن سبيل الله، ومنعهم من الدعوة لدينهم، والهجرة. ويدعون الله، أن يجعل لهم وليا ونصيرا، يستنقذهم من هذه القرية الظالم أهلها. فصار جهادكم على هذا الوجه، من باب القتال، والذب عن عيلاتكم وأولادكم، ومحارمكم، لأن باب الجهاد، الذي هو الطمع في الكفار فإنه، وإن كان فيه فضل عظيم، ويلام المتخلف عنه أعظم اللوم. فالجهاد الذي فيه استنقاذ المستضعفين منكم، أعظم أجرا، وأكبر فائدة بحيث يكون من باب دفع الأعداء. * (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) * ثم قال: * (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله) * الآية. هذا إخبار من الله بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله * (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) * الذي هو الشيطان. في ضمن ذلك عدة فوائد: منها: أنه بحسب إيمان العبد، يكون جهاده في سبيل الله، وإخلاصه، ومتابعته. فالجهاد في سبيل الله، من آثار الإيمان، ومقتضياته ولوازمه. كما أن القتال في سبيل الطاغوت، من شعب الكفر ومقتضياته. ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل الله، ينبغي له، ويحسن منه، من الصبر والجلد، ما لا يقوم به غيره. فإذا كان أولياء الشيطان، يصبرون ويقاتلون، وهم على باطل، فأهل الحق أولى بذلك، كما قال تعالى في هذا المعنى: * (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) * الآية. ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل الله، معتمدا على ركن وثيق، وهو الحق، والتوكل على الله. فصاحب القوة، والركن، يطلب منه، من الصبر والثبات، والنشاط ما لا يطلب ممن يقاتل، عن الباطل، الذي لا حقيقة له، ولا عاقبة حميدة. فلهذا قال تعالى: * (فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) *. والكيد: سلوك الطرق الخفية، الذي فيه إلحاق الضرر بالعدو. فالشيطان، وإن بلغ مكره مهما بلغ، فإنه في غاية الضعف، الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق، ولا لكيد الله لعباده المؤمنين. * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) * كان المسلمون إذ كانوا بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، أي: مواساة الفقراء، لا الزكاة المعروفة، ذات النصب والشروط، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء، لعدة فوائد: منها: أن من حكمة الباري تعالى، أن يشرع لعباده، الشرائع، على وجه لا يشق
(١٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 182 183 184 185 186 187 188 189 190 191 192 ... » »»