تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ١٩٥
وكما أن الهداية حصلت لكم شيئا فشيئا، فكذلك غيركم. فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة، ومعاملته لمن كان على مثلها، بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه. ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال: * (فتبينوا) *. فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله، ومجاهدة أعداء الله، واستعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم، مأمورا بالتبين لمن ألقى إليه السلام، وكانت القرينة قوية، في أنه إنما سلم تعوذا من القتل، وخوفا على نفسه فإن ذلك يدل على الأمر بالتبين والتثبت، في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه، فيتثبت فيها العبد، حتى يتضح له الأمر، ويتبين الرشد والصواب. * (إن الله كان بما تعملون خبيرا) * فيجازي كلا، ما عمله ونواه، بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم. * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وك لا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) * أي: لا يستوي من جاهد من المؤمنين، بنفسه وماله، ومن لم يخرج للجهاد، ولم يقاتل أعداء الله. ففيه الحث على الخروج للجهاد، والترغيب في ذلك، والترهيب من التكاسل، والقعود عنه، من غير عذر. وأما أهل الضرر، كالمريض، والأعمى، والأعرج، والذي لا يجد ما يتجهز به، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين، من غير عذر. فمن كان من أولي الضرر، راضيا بقعوده، لا ينوي الخروج في سبيل الله، لولا وجود المانع، ولا يحدث نفسه بذلك، فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر. ومن كان عازما على الخروج في سبيل الله، لولا وجود المانع، يتمنى ذلك، ويحدث به نفسه، فإنه بمنزلة من خرج للجهاد. لأن النية الجازمة، إذا اقترن بها مقدورها، من القول، أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل. ثم صرح تعالى، بتفضيل المجاهدين على القاعدين، بالدرجة أي: الرفعة، وهذا تفضيل على وجه الإجمال. ثم صرح بذلك على وجه التفصيل، ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير، واندفاع كل شر. والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه في الصحيحين، أن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين، كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله. وهذا الثواب، الذي رتبه الله على الجهاد، نظير الذي في سورة الصف في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم) * إلى آخر السورة. وتأمل حسن هذا الانتقال، من حالة إلى أعلى منها. فإنه نفى التسوية أولا، بين المجاهد وغيره. ثم صرح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة. ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة، والرحمة والدرجات. وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح، أو النزول من حالة إلى ما دونها، عند القدح والذم أحسن لفظا، وأوقع في النفس. وكذلك إذا فضل تعالى، شيئا على شيء، وكل منهما له فضل، احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين، لئلا يتوهم أحد، ذم المفضل عليه كما قال هنا: * (وكلا وعد الله الحسنى) *. وكما قال تعالى في الآيات المذكورة في الصف في قوله: * (وبشر المؤمنين) *. وكما في قوله تعالى: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) * أي: ممن لم يكن كذلك. ثم قال: * (وكلا وعد الله الحسنى) *. وكما قال تعالى: * (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) *. فينبغي لمن يبحث في التفضيل بين الأشخاص، والطوائف، والأعمال، أن يفطن لهذه النكتة. وكذلك لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات، ذكر ما تجتمع فيه، عند تفضيل بعضها على بعض، لئلا يتوهم أن المفضل، قد حصل له الكمال. كما إذا قيل: النصارى خير من المجوس، فليقل مع ذلك وكل منهما كافر. والقتل أشنع من الزنا، وكل منهما معصية كبيرة، حرمها الله ورسوله وزجر عنها. ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادرين عن اسميه الكريمين * (الغفور الرحيم) * ختم هذه الآية بهما فقال: * (وكان الله غفورا رحيما) *. * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأول ئك مأواهم جهنم وسآءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأول ئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) * هذا الوعيد الشديد، لمن ترك الهجرة، مع قدرته عليها، حتى مات. فإن الملائكة الذين يقبضون روحه، يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: * (فيم كنتم) * أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين ومعاونتهم على أعدائهم. * (قالوا كنا مستضعفين في الأرض) * أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك، لأن الله وبخهم،
(١٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 190 191 192 193 194 195 196 197 198 199 200 ... » »»