تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ١٧٦
عموم المؤمنين، فيه دلالة على أن المؤمنين، في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، ومصالحهم، كالجسد الواحد، حيث كان الإيمان يجمعهم، على مصالحهم الدينية والدنيوية. ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل، التي فيها غاية الضرر عليهم، على الأكل، ومن أخذ ماله أباح لهم، ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات، وأنواع الحرف والإجارات فقال: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * أي: فإنها مباحة لكم. وشرط التراضي مع كونها تجارة لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا، لأن الربا ليس من التجارة، بل مخالف لمقصودها، وأنه لا بد أن يرضى كل من المتعاقدين، ويأتي به اختيارا. ومن تمام الرضا، أن يكون المعقود عليه، معلوما، لأنه إذا لم يكن كذلك، لا يتصور الرضا مقدورا على تسليمه، لأن غير المقدور عليه، شبيه ببيع القمار. فبيع الغرر بجميع أنواعه، خال من الرضا، فلا ينفذ عقده. وفيها أنه تنعقد العقود، بما دل عليها، من قول أو فعل، لأن الله شرط الرضا، فبأي طريق حصل الرضا، انعقد به العقد. ثم ختم الآية بقوله: * (إن الله كان بكم رحيما) * ومن رحمته، أن عصم دماءكم وأموالكم، وصانها، ونهاكم عن انتهاكها. ثم قال: * (ومن يفعل ذلك) * أي: أكل الأموال بالباطل، وقتل النفوس * (عدوانا وظلما) * أي: لا جهلا ونسيانا * (فسوف نصليه نارا) * أي: عظيمة كما يفيده التنكير * (وكان ذلك على الله يسيرا) *. * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) * وعدهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات، غفر لهم جميع الذنوب والسيئات، وأدخلهم مدخلا كريما، كثير الخير، وهو الجنة، المشتملة على ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ويدخل في اجتناب الكبائر، فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة، كالصلوات الخمس، والجمعة وصوم رمضان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها، ما اجتنبت الكبائر). وأحسن ما حدت به الكبائر، أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان، أو ترتيب لعنة، أو غضب عليه. * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنسآء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما) * ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم، ما فضل الله به غيره، من الأمور الممكنة، وغير الممكنة. فلا تتمنى النساء خصائص الرجال، التي بها فضلهم على النساء، ولا صاحب الفقر والنقص، حالة الغنى والكمال، تمنيا مجردا، لأن هذا هو الحسد بعينه، تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك، ويسلب إياها. ولأنه يقتضي السخط على قدر الله، والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة، التي لا يقترن بها عمل، ولا كسب. وإنما المحمود أمران، أن يسعى العبد على حسب قدرته، بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية. ويسأل الله تعالى من فضله. فلا يتكل على نفسه، ولا على غير ربه. ولهذا قال تعالى: * (للرجال نصيب مما اكتسبوا) * أي: من أعمالهم المنتجة للمطلوب. * (وللنساء نصيب مما اكتسبن) * فكل منهم لا يناله، غير ما كسبه، وتعب فيه. * (واسألوا الله من فضله) * أي: من جميع مصالحكم في الدين والدنيا. فهذا كمال العبد، وعنوان سعادته، لا من يترك العمل، أو يتكل على نفسه، غير مفتقر لربه، أو يجمع بين الأمرين، فإن هذا مخذول خاسر. وقوله: * (إن الله كان بكل شيء عليما) * فيعطى من يعلمه أهلا لذلك، ويمنع من يعلمه غير مستحق. * (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا) * أي: * (ولكل) * من الناس * (جعلنا موالي) * أي: يتولونه ويتولاهم، بالتعزز والنصرة، والمعاونة على الأمور. * (مما ترك الوالدان والأقربون) * وهذا يشمل سائر الأقارب، من الأصول والفروع والحواشي. هؤلاء الموالي من القرابة. ثم ذكر نوعا آخر من الموالي فقال: * (والذين عقدت أيمانكم) * أي: حالفتموهم بما عقدتم معهم من عقد المحالفة على النصرة والمساعدة، والاشتراك بالأموال، وغير ذلك. وكل هذا من نعم الله على عباده، حيث كان الموالي يتعاونون بما لا يقدر عليه بعضهم مفردا. قال تعالى: * (فآتوهم نصيبهم) * أي: آتوا الموالي نصيبهم، الذي يجب القيام به، من النصرة والمعاونة، والمساعدة، على غير معصية الله. والميراث للأقارب الأدنين من الموالي. * (إن الله كان على كل شيء شهيدا) * أي: مطلعا على كل شيء، بعلمه لجميع الأمور، وبصره لحركات عباده، وسمعه لجميع أصواتهم.
(١٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 171 172 173 174 175 176 177 178 179 180 181 ... » »»