أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأول ئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) * المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات: المنافقون المظهرون إسلامهم، ولم يهاجروا مع كفرهم. وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم، فيهم اشتباه. فبعضهم تحرج عن قتالهم، وقطع موالاتهم، بسبب ما أظهروه من الإيمان. وبعضهم علم أحوالهم، بقرائن أفعالهم، فحكم بكفرهم. فأخبر عنهم تعالى، أنه لا ينبغي لكم، أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا. بل أمرهم واضح غير مشكل، إنهم منافقون، قد تكرر كفرهم، وودوا مع ذلك كفركم، وأن تكونوا مثلهم. فإذا تحققتم ذلك منهم * (فلا تتخذوا منهم أولياء) * وهذا يستلزم عدم محبتهم، لأن الولاية فرع المحبة. ويستلزم أيضا، بغضهم، وعداوتهم، لأن النهي عن الشيء، أمر بضده. وهذا الأمر مؤقت بهجرتهم. فإذا هاجروا، جرى عليهم، ما جرى على المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجري أحكام الإسلام على كل من كان معه، وهاجر إليه، سواء كان مؤمنا حقيقة، أو ظاهر الإيمان. وأنهم إن لم يهاجروا، وتولوا عنها * (فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم) * أي: في أي وقت، وأي محل كان. وهذا من جملة الأدلة الدالة، على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول جمهور العلماء. والمنازعون يقولون: هذه نصوص مطلقة، محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم. ثم إن الله استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فرق: فرقتين أمر بتركهم، وحتم على ذلك. إحداهما، من يصل إلى قوم، بينهم وبين المسلمين، عهد وميثاق بترك القتال، فينضم إليهم، فيكون له حكمهم، في حقن الدم والمال. والفرقة الثانية قوم * (حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم) * أي: بقوا، لا تسمح أنفسهم بقتالكم، ولا بقتال قومهم، وأحبوا ترك قتال الفريقين. فهؤلاء أيضا، أمر بتركهم، وذكر الحكمة في ذلك بقوله: * (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) * فإن الأمور الممكنة ثلاثة أقسام: إما أن يكونوا معكم، ويقاتلوا أعداءكم. وهذا متعذر من هؤلاء. فدار الأمر، بين قتالكم مع قومهم، وبين ترك قتال الفريقين، وهو أهون الأمرين عليكم، والله قادر على تسليطهم عليكم. فاقبلوا العافية، واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم، مع التمكن من ذلك. فهؤلاء * (إن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) *. الفرقة الثالثة: قوم يريدون مصلحة أنفسهم، بقطع النظر عن احترامكم. وهم الذين قال الله فيهم: * (ستجدون آخرين) * أي: من هؤلاء المنافقين. * (يريدون أن يأمنوكم) * أي: خوفا منكم * (ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) * أي: لا يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم. وكلما عرض لهم عارض من عوارض الفتن، أعماهم، ونكسهم على رؤوسهم، وازداد كفرهم ونفاقهم. وهؤلاء في الصورة كالفرقة الثانية، وفي الحقيقة، مخالفة لها. فإن الفرقة الثانية، تركوا قتال المؤمنين، احتراما لهم، لا خوفا على أنفسهم. وأما هذه الفرقة، فتركوه خوفا، لا احتراما. بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين، فإنهم سيقدمون لانتهازها. فهؤلاء إن لم يتبين منهم، ويتضح اتضاحا عظيما، اعتزال المؤمنين وترك قتالهم، فإنهم يقاتلون. ولهذا قال: * (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم) * أي: المسالمة والموادعة. * (ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) * أي: حجة بينة واضحة، لكونهم معتدين ظالمين لكم تاركين للمسالمة، فلا يلوموا إلا أنفسهم. * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما) * وهذه الصيغة من صيغ الامتناع. أي: يمتنع ويستحيل، أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن أي: متعمدا. وفي هذا الإخبار بشدة تحريمه، وأنه مناف للإيمان أشد منافاة. وإنما يصدر ذلك، إما من كافر، أو من فاسق، قد نقص إيمانه نقصا عظيما، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك. فإن الإيمان الصحيح، يمنع المؤمن من قتل أخيه، الذي قد عقد الله بينه وبينه، الأخوة الإيمانية، التي من مقتضاها، محبته وموالاته، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى، وأي أذى أشد من القتل؟ وهذا يصدق قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب
(١٩٢)