في نفسه وفي غيره وأن الله تعالى إذا أمره بأمر وجب عليه - أولا - أن يعرف حده وما هو الذي أمر به ليتمكن بذلك من امتثاله فإذا عرف ذلك اجتهد واستعان بالله على امتثاله في نفسه وفي غيره بحسب قدرته وإمكانه وكذلك إذا نهى عن أمر عرف حده وما يدخل فيه وما لا يدخل ثم اجتهد واستعان بربه في تركه وأن هذا ينبغي مراعاته في جميع الأوامر الإلهية والنواهي وهذه الآيات الكريمات وقد اشتملت على أوامر وخصال من خصال الخير أمر الله [بها] وحث على فعلها وأخبر عن جزاء أهلها وعلى نواهي حث على تركها ولعل الحكمة - والله أعلم - في إدخال هذه الآيات أثناء قصة أحد أنه قد تقدم أن الله تعالى وعد عباده المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم على أعدائهم وخذل الأعداء عنهم كما في قوله تعالى: * (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) * ثم قال: * (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم) * الآيات فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى التي يحصل بها النصر والفلاح والسعادة فذكر الله في هذه الآيات أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى ويدل على ما قلنا أن الله ذكر لفظ التقوى في هذه الآيات ثلاث مرات: مرة مطلقة وهي قوله: * (أعدت للمتقين) * ومرتين مقيدتين فقال: * (واتقوا الله) * * (واتقوا النار) * فقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا) * كل ما في القرآن من قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا) * افعلوا كذا أو اتركوا كذا يدل على أن الإيمان هو السبب الداعي والموجب لامتثال ذلك الأمر واجتناب ذلك النهي؛ لأن الإيمان هو التصديق الكامل بما يجب التصديق به المستلزم لأعمال الجوارح فنهاهم عن أكل الربا أضعافا مضاعفة وذلك هو ما اعتاده أهل الجاهلية ومن لا يبالي بالأوامر الشرعية من أنه إذا حل الدين على المعسر ولم يحصل منه شيء قالوا له: إما أن تقضي ما عليك من الدين وإما أن نزيد في المدة وتزيد ما في ذمتك فيضطر الفقير ويستدفع غريمه ويلتزم ذلك اغتناما لراحته الحاضرة فيزداد - بذلك - ما في ذمته أضعافا مضاعفة من غير نفع وانتفاع ففي قوله: * (أضعافا مضاعفة) * تنبيه على شدة شناعته بكثرته وتنبيه لحكمة تحريمه وأن تحريم الربا حكمته أن الله منع منه لما فيه من الظلم وذلك أن الله أوجب إنظار المعسر وبقاء ما في ذمته من غير زيادة فإلزامه بما فوق ذلك ظلم متضاعف فيتعين على المؤمن المتقي تركه وعدم قربانه لأن تركه من موجبات التقوى والفلاح متوقف على التقوى فلهذا قال: * (واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين) * بترك ما يوجب دخولها من الكفر والمعاصي على اختلاف درجاتها فإن المعاصي كلها - وخصوصا المعاصي الكبار - تجر إلى الكفر بل هي من خصال الكفر الذي أعد الله النار لأهله فترك المعاصي ينجي من النار ويقي من سخط الجبار وأفعال الخير والطاعة توجب رضا الرحمن ودخول الجنان وحصول الرحمة ولهذا قال: * (وأطيعوا الله والرسول) * بفعل الأوامر وامتثالها واجتناب النواهي * (لعلكم ترحمون) * فطاعة الله وطاعة رسوله من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى: * (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة) * الآيات ثم أمرهم تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض فكيف بطولها التي أعدها الله للمتقين فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة إليها ثم وصف المتقين وأعمالهم فقال: * (الذين ينفقون في السراء والضراء) * أي: في عسرهم ويسرهم إن أيسروا أكثروا من النفقة وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا ولو قل * (والكاظمين الغيظ) * أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم - وهو امتلاء قلوبهم من الحنق الموجب للانتقام بالقول والفعل - هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ ويصبرون عن مقابلة المسئ إليهم * (والعافين عن الناس) * يدخل في العفو عن الناس العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل والعفو أبلغ من الكظم لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسئ وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة وتخلى عن الأخلاق الرذيلة وممن تاجر مع الله وعفا عن عباد الله رحمة بهم وإحسانا إليهم وكراهة لحصول الشر عليهم وليعفو الله عنه ويكون أجره على ربه الكريم لا على العبد الفقير كما قال تعالى: * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) * ثم ذكر حالة أعم من غيرها وأحسن وأعلى وأجل وهي الإحسان فقال [تعالى:] * (والله يحب المحسنين) * والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق [والإحسان إلى المخلوق فالإحسان في عبادة
(١٤٨)