تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ١٥٠
لعباده المؤمنين ومقويا لعزائمهم ومنهضا لهممهم: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا) * أي: ولا تهنوا وتضعفوا في أبدانكم ولا تحزنوا في قلوبكم عندما أصابتكم المصيبة وابتليتم بهذه البلوى فإن الحزن في القلوب والوهن على الأبدان زيادة مصيبة عليكم وأعون لعدوكم عليكم بل شجعوا قلوبكم وصبروها وادفعوا عنها الحزن وتصلبوا على قتال عدوكم وذكر تعالى أنه لا يليق بهم الوهن والحزن وهم الأعلون في الإيمان ورجاء نصر الله وثوابه فالمؤمن المبتغي ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي له ذلك ولهذا قال [تعالى] * (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) * ثم سلاهم بما حصل لهم من الهزيمة وبين الحكمة العظيمة المترتبة على ذلك فقال تعالى: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * فأنتم وهم قد تساويتم في القرح ولكنكم ترجون من الله ما لا يرجون كما قال تعالى: * (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) * ومن الحكم في ذلك أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر والبر والفاجر فيداول الله الأيام بين الناس يوم لهذه الطائفة ويوم للطائفة الأخرى؛ لأن هذه الدار الدنيا منقضية فانية وهذا بخلاف الدار الآخرة فإنها خالصة للذين آمنوا * (وليعلم الله الذين آمنوا) * هذا أيضا من الحكم أنه يبتلى الله عباده بالهزيمة والابتلاء ليتبين المؤمن من المنافق؛ لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده فإذا حصل في بعض الوقائع بعض أنواع الابتلاء تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام في الضراء والسراء واليسر والعسر ممن ليس كذلك * (ويتخذ منكم شهداء) * وهذا أيضا من بعض الحكم لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها فهذا من رحمته بعباده المؤمنين أن قيض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم * (والله لا يحب الظالمين) * الذين ظلموا أنفسهم وتقاعدوا عن القتال في سبيله * (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين) * * (وليمحص الله الذين آمنوا) * وهذا أيضا من الحكم أن الله يمحص بذلك المؤمنين من ذنوبهم وعيوبهم يدل ذلك على أن الشهادة والقتال في سبيل الله تكفر الذنوب وتزيل العيوب ويمحص الله أيضا المؤمنين من غيرهم من المنافقين فيتخلصون منهم ويعرفون المؤمن من المنافق ومن الحكم أيضا أن يقدر ذلك ليمحق الكافرين أي: ليكون سببا لمحقهم واستئصالهم بالعقوبة فإنهم إذا انتصروا بغوا وازدادوا طغيانا إلى طغيانهم يستحقون به المعاجلة بالعقوبة رحمة بعباده المؤمنين ثم قال تعالى: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) * هذا استفهام إنكاري أي: لا تظنوا ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته فإن في الجنة أعلى المطالب وأفضل ما به يتنافس المتنافسون وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته والعمل الموصل إليه فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها وتمرينها عليها ومعرفة ما تؤول إليه تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها ولا يبالون بها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ثم وبخهم تعالى على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ويودون حصوله فقال: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه) * وذلك أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم ممن فاته بدر كانوا يتمنون إن يحضرهم الله مشهدا يبذلون فيه جهدهم قال الله [تعالى] لهم: * (فقد رأيتموه) * أي: ما تمنيتم بأعينكم * (وأنتم تنظرون) * فما بالكم وترك الصبر؟ هذه حالة لا تليق ولا تحسن خصوصا لمن تمنى ذلك وحصل له ما تمنى فإن الواجب عليه بذل الجهد واستفراغ الوسع في ذلك وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم ولم ينكر عليهم وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها والله أعلم (144 - 145): * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين * وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ثم قال تعالى وما محمد إلا رسول إلى وسيجزي الله الشاكرين) * يقول تعالى: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) * أي: ليس ببدع من الرسل بل هو من جنس الرسل الذين قبله وظيفتهم تبليغ رسالة ربهم وتنفيذ أوامره ليسوا بمخلدين وليس بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر الله بل الواجب على الأمم عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال ولهذا قال: * (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) * بترك ما جاءكم به من إيمان أو جهاد أو غير ذلك قال [] تعالى: * (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) * إنما يضر نفسه وإلا فالله تعالى غني عنه وسيقيم دينه ويعز عباده المؤمنين فلما وبخ تعالى من انقلب على عقبيه مدح من ثبت مع رسوله وامتثل أمر ربه فقال: * (وسيجزي الله
(١٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 145 146 147 148 149 150 151 152 153 154 155 ... » »»