تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٨ - الصفحة ١٠٧
وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي أن ذلك قد وقع مرارا منهم، وفيه إن كبار الصحابة كأبي بكر. وعمر. وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا، ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مرارا إن أريد بها رواية البيهفي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغني - والله تعالى أعلم - أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعول عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته، وأني بذلك؟! وبالجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر.
هذا ومن باب الإشارة: على ما قيل في الآيات: * (هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) * (الجمعة: 2) إشارة إلى عظيم قدرته عز وجل وأن إفاضة العلوم لا تتوقف على الأسباب العادية، ومنه قالوا: إن الولي يجوز أن يكون أميا كالشيخ معروف الكرخي - على ما قال ابن الجوزي - وعنده من العلوم اللدنية ما تقصر عنها العقول، وقال العز بن عبد السلام: قد يكون الإنسان عالما بالله تعالى ذا يقين وليس عنده علم من فروض الكفايات، وقد كان الصحابة أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن في علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفقه من بعض الصحابة، ومن انقطع إلى الله عز وجل وخلصت روحه أفيض على قلبه أنوار إلهية تهيأت بها لادراك العلوم الربانية والمعارف اللدنية، فالولاية لا تتوقف قطعا على معرفة العلوم الرسمية كالنحو. والمعاني. والبيان. وغير ذلك، ولا على معرفة الفقه مثلا على الوجه المعروف بل على تعلم ما يلزم الشخص من فروض العين على أي وجه كان من قراءة أو سماع من عالم أو نحو ذلك، ولا يتصور ولاية شخص لا يعرف ما يلزمه من الأمور الشرعية كأكثر من تقبل يده في زماننا، وقد رأيت منهم من يقول - وقد بلغ من العمر نحو سبعين سنة - إذا تشهد لا إله أن الله بأن بدلا إلا فقلت له: منذ كم تقول هكذا؟ فقال: من صغرى إلى اليوم فكررت عليه الكلمة الطيبة فما قالها على الوجه الصحيح إلا بجهد، ولا أظن ثباته على ذلك، وخبر " لا يتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه " ليس من كلامه عليه الصلاة والسلام. ومع ذلك لا يفيد في دعوى ولاية من ذكرنا.
وذكر بعضهم أن قوله تعالى: * (ويزكيهم) * بعد قوله سبحانه: * (يتلو عليهم آياته) * (آل عمران: 164) إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفادة القالية اللسانية، وقال بحصولها للأولياء المرشدين: فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص قلوبهم وتزكو نفوسهم، وهو سر ما يقال له التوجه عند السادة النقشبندية، وقالوا: بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلا يعول عليه عن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه رضي الله تعالى عنهم، وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلا لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحبال القمر، ولولا خوف الأطناب لذكرتها مع ما فيها، ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين: التوجه. والرابطة، وقد شاهدت ذلك من فضل الله عز وجل،
(١٠٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 ... » »»