سورة التغابن مدنية في قول الأكثرين، وعن ابن عباس. وعطاء بن يسار أنها مكية إلا آيات من آخرها * (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم) * (التغابن: 14) الخ، وعدد آيها تسع عشرة آية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر هنا حال المنافقين وخاطب بعد المؤمنين، وذكر جل وعلا هنا تقسيم الناس إلى مؤمن. وكافر، وأيضا في آخر تلك * (لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم) * (المنافقون: 9) وفي هذه * (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) * (التغابن: 15) وهذه الجملة على ما قيل: كالتعليل لتلك ، وأيضا في ذكر التغابن نوع حث على الانفاق قبل الموت المأمور به فيما قبل، واستنبط بعضهم عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين من قوله تعالى في تلك السورة: * (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) * (المنافقون: 11) فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها سبحانه بالتغابن ليظهر التغابن في فقده عليه الصلاة والسلام.
* (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الارض له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير) *.
بسم الله الرحمان الرحيم * (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) * أي ينزهه سبحانه وتعالى جميع المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه سبحانه تسبيحا مستمرا، وذلك بدلالتها على كمال عز وجل واستغنائه تعالى، والتجدد باعتبار تجدد النظر في وجوه الدلالة على ذلك * (له الملك وله الحمد) * لا لغيره تعالى إذ هو جل شأنه المبدىء لكل شيء وهو القائم به والمهيمن عليه وهو عز وجل المولي لأصول النعم وفروعها وأما ملك غيره سبحانه فاسترعاء منه تعالى وتسليط، وأما حمد غيره تبارك وتعالى فلجريان إنعامه تعالى على يده فكلا الأمرين له تعالى في الحقيقة ولغيره بحسب الصورة، وتقديم * (له الملك) * لأنه كالدليل لما بعده * (وهو على كل شيء قدير) * لأن نسبة ذاته جل شأنه المقتضية للقدة إلى الكل سواء فلا يتصور كون بعض مقدورا دون بعض، وقوله تعالى:
* (هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير) *.
* (هو الذي خلقكم) * الخ بيان لبعض قدرته تعالى العامة، والمراد هو الذي أوجدكم كما شاء وقوله تعالى:
* (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) * أي فبعضكم كافر به تعالى وبعضكم مؤمن به عز وجل، أو فبعض منكم كافر به سبحانه وبعض منكم مؤمن به تعالى تفصيل لما في * (خلقكم) * من الإجمال لأن كون بعضهم. أو بعض منهم كافرا، وكون بعضهم. أو بعض منهم مؤمنا مراد منه فالفاء مثلها في قوله تعالى: * (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه) * (النور: 45) الخ فيكون الكفر والايمان في ضمن الخلق وهو الذي تؤيده الأخبار الصحيحة كخبر البخاري. ومسلم. والترمذي. وأبي داود عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: يكتب رزقه. وأجله. وعمله. وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح الحديث " وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض فيقول: أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق ".
وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله تعالى: * (وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير) * (التغابن: 3) والجمع بين الخبرين مما لا يخفى على من أوتي نصيبا من العلم، وتقديم الكفر لأنه الأغلب.