تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٨ - الصفحة ٩٦
متجاوزين عن الناس * (فتمنوا الموت) * أي فتمنوا من الله تعالى أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة * (إن كنتم صادقين) * جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين في زعمكم واثقين بأنه حق فتمنوا الموت فإن من أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها من هذه الدار التي هي قرارة الإنكاد والأكدار، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك إظهارا لكذبهم فإنهم كانوا يقولون: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) ويدعون أن الآخرة لهم عند الله خالصة ويقولون: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) * وروى أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبت يهود المدينة ليهود خيبر: إن اتبعتم محمدا أطعناه وإن خالفتموه خالفناه، فقالوا نحن أبناء خليل الرحمن ومنا عزيز ابن الله والأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من من محمد ولا سبيل إلى اتباعه فنزلت * (قل يا أيها الذين هادوا) * الآية، واستعمال * (إن) * التي للشك مع الزعم وهو محقق للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجزم به لوجود ما يكذبه.
وقرأ ابن يعمر. وابن أبي إسحق. وابن السميقع * (فتمنوا الموت) * بكسر الواو تشبيها بلو استطعنا، وعن ابن السميقع أيضا فتحها، وحكى الكسائي عن بعض الأعراض أنه قرأ بالهمزة مضمومة بدل الواو.
* (ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظ‍المين) *.
* (ولا يتمنونه أبدا) * إخبار بحالهم المستقبلة وهو عدم تمنيهم الموت، وذلك خاص على ما صرح به جمع بأولئك المخاطبين، وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: " والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه " فلم يتمنه أحد منهم وما ذلك إلا لأنهم كانوا موقنين بصدقه عليه الصلاة والسلام فعلموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد، وهذه إحدى المعجزات، وجاء نفي هذا التمني في آية أخرى - بلن - وهو من باب التفنن على القول المشهور في أن كلا من - لا - و - لن - لنفي المستقبل من غير تأكيد، ومن قال: بإفادة - لن - التأكيد فوجه اختصاص التوكيد عنده بذلك الموضع أنهم ادعوا الاختصاص دون الناس في الموضعين، وزادوا هنالك أنه أمر مكشوف لا شبه فيه محققة عند الله فناسب أن يؤكد ما ينفيه، والباء في قوله سبحانه: * (بما قدمت أيديهم) * سببية متعلقة بما يدل عليه النفي أي يأبون التمني بسبب ما قدمت، وجوز تعلقه بالانتفاء كأنه قيل: انتفى تمنيهم بسبب ما قدمت كما قيل ذلك في قوله تعالى: * (ما أنت بنهمة ربك بمجنون) * والمراد بما قدمته أيديهم الكفر والمعاصي الموجبة لدخول النار، ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفعاله عبر بها تارة عن النفس. وأخرى عن القدرة.
* (والله عليم بالظالمين) * أي بهم وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بأنهم ظالمون في كل ما يأتون ويذرون من الأمور التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل، والجملة تذييل لما قبلها مقررة لما أشار إليه من سوء أفعالهم واقتضائها العذاب أي والله تعالى عليم بما صدر منهم من فنون الظلم والمعاصي وبما سيكون منهم فيجازيهم على ذلك.
* (قل إن الموت الذى تفرون منه فإنه مل‍اقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشه‍ادة فينبئكم بما كنتم تعملون) *.
* (قل إن الموت الذي تفرون منه) * ولا تجسرون على أن تمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال أفعالكم.
* (فإنه مل‍اقيكم) * البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه والجملة خبر * (إن) * والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار وصفه بالموصول، فإن الصفة والموصوف كالشيء الواحد، فلا يقال: إن الفاء إنما تدخل الخبر
(٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 ... » »»