تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٦ - الصفحة ٩٧
من الأشياء أو شيئا من الاغناء فهو نصب على المفعولية أو المصدرية. ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق ليس له من هاج لئلا يركب متن المكابرة والعناف ولا ينكب بالكلية عن سبيل الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والانعام العام الخالق الرازق المحيء المميت المثيب المعاقب ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا قادرا على النفع والضر لكن كان ممكنا لاستنكف ذو العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبية فما ظنك بجماد مصنوع ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر.
ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلا بالنظر السوي مصدرا لدعوته بما مر من الاستعطاف حيث قال:
* (ياأبت إنى قد جآءنى من العلم ما لم يأتك فاتبعنىأهدك صراطا سويا) * * (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك) * ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رقيق له يكون أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال: * (فاتبعني أهدك صراطا سويا) * أي مستقيما موصلا إلى أسنى المطالب منحيا عن الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب. وقوله: * (جاءني) * ظاهر في أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبىء عليه السلام، والذي جاءه قيل العلم بما يجب لله تعالى وما يمتنع في حقه وما يجوز على أتم وجه وأكمله. وقيل: العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها. وقيل: العلم بما يعم ذلك ثم ثبطه عما هو عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال:
* (ياأبت لا تعبد الشيط‍ان إن الشيط‍ان كان للرحم‍ان عصيا) * * (يا أبت لا تعبد الشيطان) * فإن عبادتك الأصنام عبادة له إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها.
وقوله: * (إن الشيطان كان للرحم‍ان عصيا) * تعليل لموجب النهي وتأكيد له ببيان أنه مستعص على من شملتك رحمته وعمتك نعمته. ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص وكل من هو عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه، وللإشارة إلى هذا المعنى جيء بالرحمن. وفيه أيضا إشارة إلى كمال شناعة عصيانه. وفي الاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها أو لأنه نتيجة معاداته لآدم عليه السلام فتذكيره داع لأبيه عن الاحتراز عن موالاته وطاعته، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير. [بم وقوله:
* (ياأبت إنىأخاف أن يمسك عذاب من الرحم‍ان فتكون للشيط‍ان وليا) * * (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحم‍ان) * تحذي من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام والخوف كما قال الراغب توقع المكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة فهو غير مقطوع فيه بما يخاف. ومن هنا قيل: إن في اختياره مجاملة. وحمله الفراء. والطبري على العلم وليس بذاك. وتنوين * (عذاب) * على ما اختاره السعد في المطول يحتمل التعظيم والتقليل أي عذاب هائل أو أدنى شيء منه وقال لا دلالة للفظ المس وإضافة العذاب إلى الرحمن على ترجيح الثاني كما ذكره بعضهم لقوله تعالى: * (لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم) * (النور: 14) ولأن العقوبة من الكريم الحليم أشد اه‍.
(٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 ... » »»