تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٦ - الصفحة ٨٦
الأكل على الشرب حيث وقع، وقيل: قدم الماء لأنه أصل في النفع ونفعه عام للتنظيف ونحوه، وقد كان جاريا وهو أظهر في إزالة الحزن وأخر الشرب للعادة. وقيل قدم الأكل ليجاور ما يشاكله وهو الرطب.
والأمر قيل يحتمل الوجوب والندب. وذلك باعتبار حالها، وقيل هو للإباحة * (وقري عينا) * وطيبي نفسا وارفضي عنها ما أحزنك. وقرىء بكسر القاف وهي لغة نجدوهم يفتحون عين الماضي ويكسرون عين المضارع وغيرهم يكسرهما وذلك من القر بمعنى السكون فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ويشهد له قوله تعالى: * (تدور أعينهم) * من الحزن أو بمعنى البرد فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. ويشهد له قولهم قرة العين وسخنتها للمحبوب والمكروه. وتسليتها عليها السلام بما تضمنته الآية من إجراء الماء وإخراج الرطب من حيث أنهما أمران خارقان للعادة فكأنه قيل لا تحزني فإن الله تعالى قدير ينزه ساحتك عما يختلج في صدور المتقيدين بالأحكام العادية بأن يرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك بما أظهر لهم من البسائط العنصرية والمركبات النباتية ما يخرق العادات التكوينية، وفرع على التسلية الأمر بالأكل والشرب لأن الحزين قد لا يتفرغ لمثل ذلك وأكد ذلك بالأمر الأخير. ومن فسر السرى برفيع الشأن سامي القدر جعل التسلية بإخراج الرطب كما سمعت وبالسرى من حيث أن رفعة الشأن مما يتبعها تنزيه ساحتها فكأنه قيل لا تحزني فإن الله سبحانه قد أظهر لك ما ينزه ساحتك قالا وحالا.
وقد يؤيد هذا في الجملة بما روي عن ابن زيد قال: قال عيسى عليه السلام لها لا تحزني فقالت: كيف لا أحزن وأنت معى ولست ذات زوج ولا مملوكة فأي شيء عذري عند الناس ليتني مت قبل هذا فقال لها عليه السلام: أنا أكفيك الكلام * (فأما ترين من البشر أحدا) * أي آدميا كائنا من كان. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه ابن الرومي * (ترئن) * بالإبدال من الياء همزة. وزعم ابن خالويه أن هذا لحن عند أكثر النحويين.
وقال الزمخشري: إنه من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الابدال. وقرأ طلحة. وأبو جعفر. وشيبة * (ترين) * بسكون الياء وفتح النون خفيفة. قال ابن جنى: هي شاذة وكان القياس حذف النون للجازم كما في قول الأفوه الأودي: أما ترى رأسي أزري به * مأس زمان ذي انتكاس مؤوس * (فقولى) * له إن استنطقك * (إني نذرت للرحم‍ان صوما) * وقرأ زيد بن على رضي الله تعالى عنه * (صياما) * والمعنى واحد أي صمتا كما في مصحف عبد الله. وقرأ به أنس بن مالك. فالمراد بالصوم الإمساك وإطلاقه على ما ذكر باعتبار أنه بعض أفراده كإطلاق الإنسان على زيد وهو حقيقة. وقيل اطلاقه عليه مجاز والقرينة التفريع الآتي وهو ظاهر على ذلك. وقال بعضهم: المراد به الصوم عن المفطرات المعلومة وعن الكلام وكانوا لا يتكلمون في صيامهم وكان قربة في دينهم فيصح نذره. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فهو منسوخ في شرعنا كما ذكره الجصاص في كتاب الأحكام. وروي عن أبكي بكر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم فقال: إن الإسلام هدم هذا فتكلمي.
وفي شرح البخاري لابن حجر عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام. وظاهر الأخبار تحريمه فإن نذره لا يلزمه الوفاء به ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنفية لما فيه من التضييق وليس في شرعنا وإن كان
(٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 ... » »»