تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٦ - الصفحة ١٠٠
والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين تحتم أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه كما أنه لا رب في عدم جوازه عند تبين ذلك لما فيه من طلب المحال فإن ما أخبر الله تعالى بعدم وقوعه محال وقوعه ولهذا تبين له عليه السلام بالوحي على أحد القولين المذكورين في سورة التوبة أنه لا يؤمن تركه أشد الترك فالوعد والإنجاز كانا قبل التبين وبذلك فارق استغفاره عليه السلام لأبيه استغفار المؤمنين لأولي قرابتهم من المشركين لأنه كان بعد التبين ولذا لم يؤذنوا بالتأسي به عليه السلام في الاستغفار، قال العلامة الطيبي: إنه تعالى بين للمؤمنين إن أولئك أعداء الله تعالى بقوله سبحانه: * (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) * (الممتحنة: 1) وأن لا مجال لإظهار المودة بوجه ما ثم بالغ جل شأنه في تفصيل عداوتهم بقوله عز وجل: * (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون) * (الممتحنة: 2) ثم حرضهم تعالى على قطيعة الأرحام بقوله سبحانه * (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة) * ثم سلاهم عز وجل بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليه السلام وقومه بقوله تبارك وتعالى: * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم) * إلى قوله تعالى شأنه: * (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) * (الممتحنة: 4) فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله المقام كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع يعني لكم التأسي بإبراهيم عليه السلام مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير فلا تجاملوهم ولاتبدوا لهم الرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم عليه السلام لأبيه في قوله سأستغفر لك لأنه لم يتبين له حينئذ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم انتهى.
واعترض بأن ما ذكر ظاهر في أن الاستغفار الذي وقع من المؤمنين لأولى قرابتهم فنهوا عنه لأنه كان بعد التبين كان كاستغفار إبراهيم عليه السلام بمعنى طلب التوفيق للتوبة والهداية للايمان، والذي اعتمده كثير من العلماء أن قوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * (التوبة: 113) الآية نزل في استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بعد موته وذلك الاستغفار مما لا يكون بمعنى طلب الهداية أصلا وكيف تعقل الهداية بعد الموت بل لو فرض استغفاره عليه الصلاة والسلام له كان قبل الموت لا يتصور أيضا أن يكون بهذا المعنى لأن الآية تقتضي أنه كان بعد تبين أنه من أصحاب الجحيم، وإذا فسر بتحتم الموت على الكفر كان ذلك دعاء بالهداية إلى الايمان مع العلم بتحتم الموت على الكفر ومحاليته إذا كانت معلومة لنا بما مر فهي أظهر شيء عنده صلى الله عليه وسلم بل وعند المقتبسين من مشكاته عليه الصلاة والسلام، وهو اعتراض قوي بحسب الظاهر وعليه يجب أن يكون استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه بذلك المعنى في حياته لعدم تصور ذلك بعد الموت وهو ظاهر.
وقد قال الزمخشري في جواب السؤال بأنه كيف جاز له عليه السلام أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قالوا: أراد اشتراط التوبة عن الكفر وقالوا إنما استغفر له بقوله: * (واغفر لأبي) * (الشعراء: 86) لأنه وعده أن يؤمن، واستشهدوا بقوله تعالى: * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) * ثم قال: ولقائل أن يقول: الذي منع من الاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع ويدل على صحته أنه استثنى قول إبراهيم عليه السلام * (لأستغفرن) * لك في آية * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم) * (الممتحنة: 4) الخ عما وجبت فيه الاسوة ولو كان بشرط الايمان والتوبة لما صح الاستثناء، وأما كون الوعد من أبيه فيخالف الظاهر الذي يشهد له قراءة الحسن وغيره * (وعدها أباه) * بالباء الموحدة، قال في " الكشف ":
(١٠٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 ... » »»