تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٨ - الصفحة ٤٥
الضرورة * (فإن ربك غفور رحيم) * مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك. وهذا جزاء الشرط لكن باعتبار لازم معناه وهو عدم المؤاخذة. وبعضهم قال بتقدير جزاء يكون هذا تعليلا له ولا حاجة إليه. ونصب * (غير) * على أنه حال. وكذا ما عطف عليه. وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد بالمعنى السابق لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر وهو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم ميتة مثلا من مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر. وأما الحالة الثانية: فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث إنه لحم الميتة. وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكن الله تعالى يغفر له ويرحمه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولا تغفل.
واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات من المطعومات في أربعة: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والفسق الذي أهل لغير الله تعالى به، ولا شك أنها أكثر من ذلك. وأجيب بأن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب كما أشرنا إليه. وحينئذ يكون استثناء الأربعة منه منقطعا أي لا أجد ما حرموه لكن أجد الأربعة محرمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر. والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر كما نبهوا عليه وهو مما ينبغي التنبه له. فإن قلت: المستثنى ليس ميتة بل كونه ميتة وذلك ليس من جنس الطعام فيكون الاستثناء منقطعا لا محالة فلا حاجة إلى ذلك التقييد. قال القطب: نعم كذلك إلا أن المقصود إخراج الميتة من الطعام المحرم يعني لا أجد محرما إلا الميتة فلولا التقييد كان في الحقيقة استثناء متصلا وورد الإشكال. وضعف ذلك الجواب بأوجه. منها أنه تعالى قال في سورة البقرة (173) وسورة النحل (115) * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) * وإنما تفيد الحصر، وقال سبحانه في سورة المائدة: (1) * (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم) * وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله عز وجل: * (إلا ما يتلى عليكم) * قوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) * (المائدة: 3) وأما المنخنقة والموقوذة وغيرهما فهي أقسام الميتة. وإنما أعيدت بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فالآيتان تدلان على أن لا محرم إلا الأربعة وحينئذ يجب القول بدلالة الآية التي نحن بصددها على الحصر لتطابق ذلك وأن لا تقييد مع أن الأصل عدم التقييد.
وأجيب عن الإشكال بأن الآية إنما تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية محرما غير ما نص عليه فيها، وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر قيل: وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا بمعنى لا أجد شيئا من المطاعم محرما في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الأربعة فإني أجد حينئذ محرما فالمصدر المتحصل من أن يكون للزمان أو الهيئة. واعترض الإمام هذا الجواب بأن ما يدل على الحصر من الآيات نزل بعد استقرار الشريعة فيدل على أن الحكم الثابت في الشريعة المحمدية من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر
(٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 ... » »»