فإن إخلاف الميعاد مما لا يكاد يصدر عن كرام الخلق مع إمكان صدوره عنهم فكيف بجناب الخلاق الغني عن العالمين جل جلاله وسبك التركيب وإن كان على إنكار أن يكون أحد أوفى بالعهد منه تعالى من غير تعرض لإنكار المساواة ونفيها لكن المقصود به قصدا مطردا إنكار المساواة ونفيها قطعا فإذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل منه فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل «فاستبشروا» التفات إلى الخطاب تشريفا لهم على تشريف وزيادة لسرورهم على سرور والاستبشار إظهار السرور والسين فيه ليس للطلب كاستوقد وأوقد والفاء لترتيب الاستبشار أو الأمر به على ما قبله أي فإذا كان كذلك فسروا نهاية السرور وافرحوا غاية الفرح بما فزتم به من الجنة وإنما قيل «ببيعكم» مع أن الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة لأن المراد ترغيبهم في الجهاد الذي عبر عنه بالبيع وإنما لم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن ذلك من قبل الله سبحانه لا من قبلهم والترغيب إنما يكون فيما يتم من قبلهم وقوله تعالى «الذي بايعتم به» لزيادة تقرير بيعهم وللإشعار بكونه مغايرا لسائر البياعات فإنه بيع للفاني بالباقي ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى عن الحسن رضي الله عنه أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها روي أن الأنصار لما بايعوه صلى الله عليه وسلم على العقبة قال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه اشترط لربك ولنفسك ما شئت قال صلى الله عليه وسلم أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم قال فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال لكم الجنة قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيله ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي وهو يقرؤها قال كلام من قال كلام الله عز وجل قال بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستشهد «وذلك» أي الجنة التي جعلت ثمنا بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم «هو الفوز العظيم» الذي لا فوز أعظم منه وما في ذلك من معنى البعد إشارة إلى بعد منزلة المشار إليه وسمو رتبته في الكمال ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى البيع الذي أمروا بالاستبشار به ويجعل ذلك كأنه نفس الفوز العظيم أو يجعل فوزا في نفسه فالجملة على الأول تذييل للآية الكريمة وعلى الثاني لقوله تعالى فاستبشروا مقرر لمضمونه «التائبون» رفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين كما يدل عليه القراءة بالياء نصبا على المدح ويجوز أن يكون مجرورا على أنه صفة للمؤمنين وقد جوز الرفع على الابتداء والخبر محذوف أي التائبون من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى وكلا وعد الله الحسنى ويجوز أن يكون خبره قوله تعالى «العابدون» وما بعده خبر بعد خبر أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه النعوت الفاضلة أي المخلصون في عبادة الله تعالى «الحامدون» لنعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء «السائحون» الصائمون لقوله صلى الله عليه وسلم سياحة أمتي الصوم شبه بها لأنه عائق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوسل بها إلى العثور على خفايا الملك والملكوت وقيل هم السائحون في الجهاد وطلب
(١٠٦)