تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٠٤
أن تكون ألفها للإلحاق كارطي. وقرأ جماعة منهم: حمزة، وابن عامر، وأبو بكر، جرف بإسكان الراء، وباقي السبعة وجماعة بضمها، وهما لغتان. وقيل: الأصل الضم. وفي مصحف أبي فانهارت به قواعده في نار جهنم، والظاهر أن هذا الكلام فيه تبيين حالي المسجدين: مسجد قباء، أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم) ومسجد الضرار، وانتفاء تساويهما والتفريق بينهما، وكذلك قال كثير من المفسرين. وقال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار وانهار يوم الاثنين. وروى سعيد بن جبير: أنه إذ أرسل الرسول بهدمه رؤي منه الدخان يخرج، وروي أنه كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة، وكان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان. وقيل: هذا ضرب مثل أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق، وبين أن بناء الكافر كبناء على شفا جرف هار يتهور أهله في جهنم. قال ابن عطية: قيل: بل ذلك حقيقة، وأن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم قاله: قتادة، وابن جريج. وخير لا شركة بين الأمرين في خير إلا على معتقد باني مسجد الضرار، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل.
وقال الزمخشري: والمعنى: أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله تعالى ورسوله خير، أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأوهاها وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك؟ وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى، لا جعل مجازا عن ما ينافي التقوى. (فإن قلت): فما معنى قوله: تعالى فانهار به في نار جهنم؟ (قلت): لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل قيل: فانهار به على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، ولتصور أن الباطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها، ولا نرى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل. وكنه أمره والفاعل فانهار أي: البنيان أو الشفا أو الجرف به، أي: المؤسس الباني، أو أنهار الشفا أو الجرف به أي: بالبنيان. ويستلزم انهيار الشفا والبنيان، ولا يستلزم انهيار أحدهما انهياره. والله لا يهدي القوم الظالمين، إشارة إلى تعديهم ووضع الشيء في غير موضعه حيث بنوا مسجد الضرار، إذ المساجد بيوت الله يجب أن يخلص فيها القصد والنية لوجه الله وعبادته، فبنوه ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله.
* (لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) *: يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدرا أي: لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان، ويحتمل أن يراد به المبني، فيكون على حذف مضاف أي: لا يزال بناء المبنى. قال ابن عباس: لا يزالون شاكين. وقال حبيب بن أبي ثابت: غيظا في قلوبهم، أي سبب غيظ. وقيل: كفرا في قلوبهم. وقال عطاء: نفاقا في قلوبهم. وقال ابن جبير: أسفا وندامة. وقال ابن السائب ومقاتل: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنيانه. وقال قتادة: في الكلام حذف تقديره: لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة أي: حزازة وغيظا في قلوبهم. وقال ابن عطية: الذي بنوا تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع الإشكال، والريبة الشك، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه، والإعراض في الشيء والتخبيط فيه. والحزازة من أجله، وإن لم يكن شكا فقد يرتاب من لا يشك، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك. ومعنى الريبة في هذه الآية تعم الحيق، واعتقاد صواب فعلهم، ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام. فمقصد الكلام: لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء. وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا، وفسرها السدي بالكفر. وقيل له: أفكفر مجمع بن جارية؟ قال: لا، ولكنها حزازة. قال ابن عطية: ومجمع رحمه الله، قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم، ولا قصد سوء. والآية إنما عنت من أبطن سوأ. وليس مجمع
(١٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 ... » »»