تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٣٩٨
المناجاة ونزول التوراة أو غيره، فقال نوف البكالي ورواه أبو صالح عن ابن عباس: وهو الأول بين فيه بعض ما جرى من أحواله وأنه اختار من كل سبط ستة رجال فكانوا اثنين وسبعين، فقال ليتخلف اثنان فإنما أمرت بسبعين فتشاحوا، فقال: من قعد فله أجر من حضر فقعد كالب بن يوقنا ويوشع بن نون واستصحب السبعين بعد أن أمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربه وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم: ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجدا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم فقالوا: * (قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) *.
قال الزمخشري: فقال * (رب أرنى أنظر إليك) * يريد أن يسمعوا الرد والإنكار من جهته، فأجيب: بلن تراني ورجف الجبل بهم وصعقوا انتهى، وقيل: هو ميقات آخر غير ميقات المناجاة ونزول التوراة، فقال وهب بن منبه: قال بنو إسرائيل لموسى إن طائفة تزعم أن الله لا يكلمك فخذ منا من يذهب معك ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فأوحى الله تعالى إليه أن يختار من قومه سبعين من خيارهم ثم ارتق بهم الجبل أنت وهارون واستخلف يوشع، ففعل فلما سمعوا كلامه سألوا موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الرجفة، وقال السدي: هو ميقات وقته الله تعالى لموسى يلقاه في ناس من بني إسرائيل ليعتذروا إليه من عبادة العجل، وقال ابن عباس فيما روى عنه علي بن طلحة هو ميقات وقته الله لموسى وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلا ليدعوا ربهم فدعوا فقالوا يا الله أعطنا ما لم تعط أحدا قبلنا ولا أحدا بعدنا فكره الله ذلك فأخذتهم الرجفة، وعن علي رضي الله عنه فيما روى ابن أبي شيبة أن موسى وهارون وابناه شبر وشبير انطلقوا حتى انتهوا إلى جبل فيه سرير فقام عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى إلى قومه فقالوا: أنت قتلته وحسدتنا على خلقه ولينه، فقال: كيف أقتله ومعي ابناه، قال: فاختاروا من شئتم فاختير سبعون فانتهوا إليه فقالوا من قتلك يا هارون قال ما قتلني أحد ولكن الله توفاني، قالوا: يا موسى ما نعصي بعد فأخذتهم الرجفة فجعلوا يتردون يمينا وشمالا انتهى، ولفظ * (لميقاتنا) * في هذا القول الذي روي عن علي لأنه يقتضي أنه كان عن توقيت من الله تعالى، وقال ابن السائب: كان موسى لا يأتي ربه إلا بإذن منه والذي يظهر أن هذا الميقات غير ميقات موسى الذي قيل طفيه: * (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) * لظاهر تغاير القصتين وما جرى فيهما إذ في تلك أن موسى كلمه الله وسأله الرؤية وأحاله في الرؤية على تجليه للجبل وثبوته فلم يثبت وصار دكا وصعق موسى وفي هذه اختير السبعون لميقات الله وأخذتهم الرجفة ولم تأخذ موسى، وللفصل الكثير الذي بين أجزاء الكلام لو كانت قصة واحدة.
* (فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى) *. سبب الرجفة مختلف فيه وهو مرتب على تفسير الميقات فهل الرجفة عقوبة على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل أو عقوبة على سؤالهم الرؤية أو عقوبة لتشططهم في الدعاء المذكور أو سببه سماع كلام هارون وهو ميت أقوال. وقال السدي: عقوبة على عبادة هؤلاء السبعين باختيارهم العجل وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله وأخذ الرجفة يحتمل أن نشأ عنه الموت ويحتمل أن نشأ عنه الغشي وهما قولان، وقال السدي قال موسى: كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم فماذا أقول وكيف يأمنونني على أحد فأحياهم الله، وقيل أخذتهم الرعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنتقض ظهورهم وخاف موسى الموت فعند ذلك بكى ودعا فكشف عنهم، قال الزمخشري: وهذا تمن منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية كما يقال النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة لو شاء الله لأهلكني قبل هذا انتهى. فمعنى قوله * (من قبل) * سؤال الرؤية وهذا بناء من الزمخشري على أن هذا الميقات هو ميقات المناجاة وطلب الرؤية وقد ذكرنا أن الأظهر خلافه، وقال ابن عطية لما رأى موسى ذلك أسف عليهم وعلم أن أمر بني إسرائيل يتشعب إن لم يأت بالقوم فجعل يستعطف ربه أن يا رب لو شئت أهلكتهم قبل هذه الحال وإياي لكان أخف علي وهذا وقت هلاكهم فيه مفسدة علي مؤذ لي انتهى، ومفعول * (شئت) * محذوف تقديره لو شئت إهلاكنا وجواب * (لو * أهلكتهم) * وأتى دون لام وهو فصيح لكنه باللام أكثر كما قال * (لو شئت لاتخذت) * * (ولو شاء ربك لآمن) *، ولا يحفظ جاء بغير لام في القرآن ألا هذا وقوله * (أن لو نشاء أصبناهم) * و * (لو نشاء جعلناه أجاجا) * والمحذوف في * (من قبل) * أي من قبل الختيار وأخذ الرجفة وذلك زمان إغضائهم على عبادة العجل أو عبادتهم هم إياه وقوله * (وإياى) * أي وقت قتلي القبطي فأنت قد سترت وغفرت حينئذ فكيف الآن إذ رجوعي
(٣٩٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 393 394 395 396 397 398 399 400 401 402 403 ... » »»