تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٣٩٩
دونهم فساد لبني إسرائيل قال أكثره ابن عطية وعطف وإياي على الضمير المنصوب في أهلكتهم وعطف الضمير مما يوجب فصله وبدأ بضميرهم لأنهم الذين أخذتهم الرجفة فماتوا أو أغمي عليهم ولم يمت هو ولا أغمي عليه ولم يكتف بقوله أهلكتهم من قبل حتى أشرك نفسه فيهم وإن كان لم يشركهم في مقتضى الإهلاك تسليما منه لمشيئة الله تعالى وقدرته وأنه لو شاء إهلاك العاصي والطائع لم يمنعه من ذلك مانع.
* (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) * قيل: هذا استفهام على سبيل الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف وتذلل والضمير المنصوب في أتهلكنا له وللسبعين وبما فعل السفهاء فيه الخلاف مرتبا على سبب أخذ الرجفة من طلب الرؤية أو عبادة العجل أو قولهم قتلت هارون أو تشططهم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل، وقيل: الضمير في أتهلكنا له ولبني إسرائيل وبما فعل السفهاء أي بالتفرق والكفر والعصيان يكون هلاكهم، وقال الزمخشري يعني نفسه وإياهم لأنه إنما طلب الرؤية زجرا للسفهاء وهم طلبوها سفها وجهلا والذي يظهر لي أنه استفهام استعلام اتبع إهلاك المختارين وهم خير بني إسرائيل بما فعل غيرهم إذ من الجائز في العقل ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * وقوله عليه السلام، وقد قيل له: أنهلك وفينا الصالحون قال: (نعم إذا كثر الخبث). وكما ورد أن قوما يخسف بهم قيل: وفيهم الصالحون فقيل: يبعثون على نياتهم أو كلاما هذا معناه وروي عن علي أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم.
* (إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء) * أي إن فتنتهم إلا فتنتك والضمير في هي يفسره سياق الكلام أي أنت هو الذي فتنتهم قالت فرقة لما أعلمه الله أن السبعين عبدوا العجل تعجب وقال إن هي إلا فتنتك، وقيل لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال: يا رب ومن أخاره قال: أنا قال: لموسى فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك، قال ابن عطية: ويحتمل أن يشير به إلى قولهم أرنا الله جهرة إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرجفة وفي هذه الآية رد على المعتزلة، وقال الزمخشري أي محنتك وبلاؤك حين كلمتني وسمعت كلامك فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسدا حتى افتتنوا وضلوا تضل بها الجاهلين غير الثابتين في معرفتك وتهدي العالمين الثابتين بالقول الثابت، وجعل ذلك إضلالا من الله تعالى وهدى منه لأن محنته إنما كانت سببا لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام انتهى وهو على طريقة المعتزلة في نفيهم الإضلال عن الله تعالى.
* (أنت ولينا) * القائم بأمرنا * (فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) *. سأل الغفران له ولهم والرحمة لما كان قد اندرج قومه في قوله أنت ولينا وفي سؤال المغفرة والرحمة له ولهم وكان قومه أصحاب ذنوب أكد استعطاف ربه تعالى في غفران تلك الذنوب فأكد ذلك ونبه بقوله وأنت خير الغافرين ولما كان هو وأخوه هارون عليه السلام من المعصومين من الذنوب فحين سأل المغفرة له ولأخيه وسأل الرحمة لم يؤكد الرحمة بل قال: وأنت أرحم الراحمين فنبه على أنه تعالى أرحم الراحمين، ألا ترى إلى قوله: * (ورحمتى وسعت كل شىء) * وكان تعالى خير الغافرين لأن غيره يتجاوز عن الذنب طلبا للثناء أو الثواب أو دفعا للصفة الخسيسة عن القلب وهي صفة الحقد والباري سبحانه وتعالى منزه عن أن يكون غفرانه لشيء من ذلك.
* (واكتب لنا فى هاذه الدنيا حسنة وفي الاخرة إنا هدنا إليك) *. أي وأثبت لنا عاقبة وحياة طيبة أو عملا صالحا يستعقب ثناء حسنا في الدنيا وفي الآخرة الجنة والرؤية والثواب على حسنة الدنيا والأجود حمل الحسنة على ما يحسن من نعمة وطاعة وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها وإنا هدنا تعليل لطلب الغفران والحسنة وكتب الحسنة أي تبنا إليك قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وأبو العالية وقتادة والضحاك والسدي: من هاد يهود، وقال ابن بحر: تقر بالتوبة، وقيل: ملنا. ومنه قول الشاعر:
(٣٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 394 395 396 397 398 399 400 401 402 403 404 ... » »»