تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٣٩٦
هو ما نال أبناءهم وهم بنو قريضة والنضير من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء ومن الذلة بضرب الجزية انتهى، والغضب إن أخذ بمعنى الإرادة فهو صفة ذات أو بمعنى العقوبة فهو صفة فعل والظاهر أن قوله * (وقال إنما اتخذتم) * متعلق بقوله * (سينالهم) *، وكذلك أي مثل ذلك النيل من الغضب والذلة نجزي من افترى الكذب على الله وأي افتراء أعظم من قولهم * (هاذا إلاهكم وإلاه موسى) * و * (المفترين) * عام في كل مفتر، وقال أبو قلابة ومالك وسفيان بن عيينة: كل صاحب بدعة أو فرية ذليل واستدلوا على ذلك بالآية.
* (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وءامنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) * * (السيئات) * هي الكفر والمعاصي غيره * (ثم تابوا) * أي رجعوا إلى الله * (من بعدها) * أي من بعد عمل السيئات * (وءامنوا) * داموا على إيمانهم وأخلصوا فيه أو تكون الواو حالية أي وقد آمنوا أن ربك من بعدها أي من بعد عمل السيئات هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون الضمير في * (من بعدها) * عائدا على التوبة أي * (إن ربك) * من بعد توبتهم فيعود على المصدر المفهوم من قوله * (ثم تابوا) * وهذا عندي أولى لأنك إذا جعلت الضمير عائدا على * (السيئات) *، احتجت إلى حذف مضاف وحذف معطوف إذ يصير التقدير من بعد عمل السيئات والتوبة منها وخبر * (الذين) * قوله * (إن ربك) * وما بعده والرابط محذوف أي * (لغفور رحيم) * لهم. قال الزمخشري: * (لغفور) * لستور عليهم محاء لما كان منهم * (رحيم) * منعم عليهم بالجنة وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم عظم جنايتهم أولا ثم أردفها بعظم رحمته ليعلم أن الذنوب وإن جلت وإن عظمت فإن عفوه تعالى وكرمه أعظم وأجل ولكن لا بد من حفظ الشريطة وهي وجوب التوبة والإنابة وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة لا يلتفت إليها حازم انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
* (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفى نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) *. سكوت غضبه كان والله أعلم بسبب اعتذار أخيه وكونه لم يقصر في نهي بني إسرائيل عن عبادة العجل ووعد الله إياه بالانتقام منهم وسكوت الغضب استعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته. قال يونس بن حبيب: تقول العرب سال الوادي ثم سكت، وقال الزجاج: مصدر * (سكت) * الغضب سكت ومصدر سكت الرجل سكوت وهذا يقتضي أنه فعل على حده وليس من سكوت الناس، وقيل هو من باب القلب أي ولما سكت موسى عن الغضب نحو أدخلت في في الحجر، وأدخلت القلنسوة في رأسي انتهى، ولا ينبغي هذا لأنه من القلب وهو لم يقع إلا في قليل من الكلام والصحيح أنه لا ينقاس، وقال الزمخشري وهذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك وترك الإغراء ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبيل شعب البلاغة، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة ولما سكن عن موسى الغضب لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزة وطرفا من تلك الروعة، وقرئ أسكت رباعيا مبنيا للمفعول، وكذا هو في مصحف حفصة والمنوي عند الله أو أخوه باعتذاره إليه أو تنصله أي أسكت الله أو هارون، وفي مصحف عبد الله ولما صبر، وفي مصحف أبي ولما انشق والمعنى ولما طفى غضبه أخذ ألواح التوراة التي كان ألقاها من يده، روي عن ابن عباس أنه ألقاها فتكسرت فصام أربعين يوما فردت إليه في لوحين ولم يفقد منها شيئا وفي نسختها أي فيما نسخ من الألواح المكسرة أو فيما نسخ فيها أو فيما بقي منها بعد المرفوع وهو سبعها والأظهر أن المعنى وفيما نقل وحول منها واللام في * (لربهم) * تقوية لوصول الفعل إلى مفعوله المتقدم، وقال الكوفيون: هي زائدة، وقال الأخفش: هي لام المفعول له أي لأجل ربهم * (يرهبون) * لا رياء ولا سمعة، وقال المبرد: هي متعلقة بمصدر المعنى الذين هم رهبتهم لربهم وهذا على طريقة البصريين لا يتمشى لأن فيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو لا يجوز عندهم إلا في الشعر وأيضا فهذا التقدير يخرج الكلام عن الفصاحة.
(٣٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 391 392 393 394 395 396 397 398 399 400 401 ... » »»