تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٣٤
منقطعا إذ لا يجوز أن يكون متصلا لأنه يصير المعنى: إلا خطأ فله قتله. وإن كان نفيا أريد به التحريم، فيكون استثناء متصلا إذ يصير المعنى: إلا خطأ بأن عرفه كافرا فقتله، وكشف الغيب أنه كان مؤمنا، فيكون قد أبيح الإقدام على قتل الكفر، وإن كان فيهم من أسلم إذا لم يعلم بهم، فيكون الاستثناء من الحظر إباحة. وقال بعض أهل العلم: المعنى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ فيكون إلا بمعنى: ولا، وأنكر الفراء هذا القول، وقال: مثل هذا لا يجوز، إلا إذا تقدم استثناء آخر، ويكون الثاني عطف استثناء على استثناء، كما في قول الشاعر:
* ما بالمدينة دار غير واحدة * دار الخليفة إلا دار مروانا * وروى أبو عبيدة عن يونس أنه سأل رؤبة بن العجاج عن هذه الآية فقال: ليس له أن يقتله عمدا ولا خطأ، ولكنه أقام إلا مقام الواو، وهو كقول الشاعر:
* وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان * والذي يظهر أن قوله: إلا خطأ، استثناء منقطع، وهو قول الجمهور منهم: أبان بن تغلب. والمعنى: لكن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ، والقتل عند مالك عمد وخطأ، فيقاد باللطمة، والعضة، وضرب السوط مما لا يقتل غالبا. وعند الشافعي: عمد، وشبه عمد. ولا قصاص في شبه العمد، ولا الخطأ. وعند أبي حنيفة: عمد، وخطأ، وشبه، عمد، وما ليس بخطأ ولا عمد ولا شبه عمد. والخطأ ضربان: أن يقصد رمي مشرك أو طائر فيصيب مسلما، أو يظنه مشركا لكونه عليه سيما أهل الشرك، أو في حيزهم. وشبه العمد ما يعمد بما لا يقتل غالبا من حجر أو عصا، وما ليس بخطأ ولا عمد ولا شبه عمد قتل الساهي والنائم. وقرأ الجمهور خطاء على وزن بناء. وقرأ الحسن والأعمش: على وزن سماء ممدودا. وقرأ الزهري: على وزن عصا مقصورا لكونه خفف الهمزة بإبدالها ألفا، أو إلحاقا بدم، أو حذف الهمزة حذفا كما حذف لام دم. وقال ابن عطية: وجوه الخطأ كثيرة، ومربطها عدم القصد.
* (ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) * التحرير: الإعتاق، والعتيق: الكريم، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد. ومنه عتاق الطير، وعتاق الخيل لكرامها. وحر الوجه أكرم موضع منه، والرقبة عبر بها عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأسا من الرقيق. والظاهر أن كل رقبة اتصفت بأن يحكم لها بالإيمان منتظم تحت قوله: رقبة مؤمنة، انتظام عموم البدل. فيندرج فيها من ولد بين مسلمين، ومن أحد أبويه مسلم، صغيرا كان أو كبيرا، ومن سباه مسلم من دار الحرب قبل البلوغ.
وقال إبراهيم: لا يجزى إلا البالغ. وقال ابن عباس، والحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وغيرهم: لا يجزئ إلا التي صامت وعقلت الإيمان، لا يجزئ في ذلك الصغيرة. وقال أبو حنيفة، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأبو يوسف، ومحمد بن زياد، وزفر: يجزى في كفارة القتل الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما. وقال عطاء: يجزئ الصغير المولود بين المسلمين. وقال مالك: من صلى وصام أحب إلي، ولا خلاف أن قوله: ومن قتل مؤمنا، ينتظم الصغير والكبير، وكذلك ينبغي أن يكون في فتحرير رقبة مؤمنة. قال ابن عطية: وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكبير كقطع اليدين والرجلين والأعمى، لا يجزئ فيما حفظت، فإن كان يسيرا يمكن معه المعيشة والتحرف كالعرج ونحوه ففيه قولان. وقال أبو بكر الرازي: لا خلاف بين الأمة أنه لا يجزئ في الكفارة أعمى، ولا مقعد، ولا مقطوع اليدين أو الرجلين، ولا أشلهما، واختلفوا في الأعرج. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجزئ مقطوع إحدى اليدين أو الرجلين. وقال مالك والشافعي والأكثرون: لا يجزئ عند أكثرهم المجنون المطبق، ولا عند مالك الذي يجن ويفيق، ولا المعتق إلى سنين، ويجزئان عند الشافعي. ولا يجزئ المدبر عند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي، ويجزىء في قول الشافعي وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وقال مالك: لا يصح من أعتق بعضه، واختلفوا في سبب وجوب الكفارة في قتل الخطأ.
(٣٣٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 329 330 331 332 333 334 335 336 337 338 339 ... » »»