تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٣٧
استثناء منقطعا هو الصواب. وقرأ الجمهور يصدقوا، وأصله يتصدقوا، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن، وعبد الوارث عن أبي عمرو: تصدقوا بالتاء على المخاطبة للحاضرة. وقرئ: تصدقوا بالتاء وتخفيف الصاد، وأصله تتصدقوا، فحذف إحدى التاءين على الخلاف في أيهما هي المحذوفة. وفي حرف أبي وعبد الله: يتصدقوا بالياء والتاء.
* (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) * قال ابن عباس وقتادة والنخعي والسدي وعكرمة وغيرهم: المعنى إن كان هذا المقتول خطأ رجلا مؤمنا قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم فلا دية فيه، وإنما كفارته تحرير رقبة. والسبب عندهم في نزولها: أن جيوش المسلمين كانت تمر بقبائل الكفرة، فربما قتل من آمن ولم يهاجر، أو من هاجر ثم رجع إلى قومه، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار، فنزلت الآية. وسقطت الدية عند هؤلاء، لأن أولياء المقتول كفرة، فلا يعطون ما يتقوون به. ولأن حرمته إذا آمن ولم يهاجر قليلة فلا دية. وإذا قتل مؤمنا في بلاد المسلمين وقومه حرب، ففيه الدية لبيت المال والكفارة. وقالت فرقة: الوجه في سقوط الدية أن أولياءه كفار، سواء أكان القتل خطأ بين أظهر المسلمين وبين قومه ولم يهاجر، واو هاجر ثم رجع إلى قومه، وكفارته ليس إلا التحرير، لأنه إن قتل بين أظهر قومه فهو مسلط على نفسه، أو بين أظهر المسلمين فأهله لا يستحقون الذية، ولا المسلمون لأنهم ليسوا أهله، فلا تجب على الحالين، هذا قول: مالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأبي ثور. وقال إبراهيم: المؤمن المقتول خطأ إن كان قومه المشركون ليس بينهم وبين النبي عهد فعلى قاتله تحرير رقبة، أو كان فتؤدى ديته لقرابته المعاهدين.
قال بعض المصنفين: اختلفت فقهاء الأمصار في من أسلم في دار الحرب وقتل قبل أن يهاجر، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في المشهور عنه: إن قتله مسلم مستأمن فكفارة الخطأ، أو كانا مستأمنين فعلى القاتل الدية وكفارة الخطأ، أو أسيرين فعلى القاتل كفارة الخطأ في قول أبي حنيفة. وقال محمد وأبو يوسف: الدية في العمد والخطأ. وقال مالك: على قاتل من أسلم في دار الحرب، ولم يخرج، الدية والكفارة إن كان خطأ. والآية إنما كانت في صلح النبي صلى الله عليه وسلم) أهل مكة، لأنه من لم يهاجر لم يورث، لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة. وقال الحسن بن صالح: إذا أقام بدار الحرب وهو قادر على الخروج حكم عليه بما يحكم على أهل الحرب في نفسه وماله واد الحق بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام. وقال الشافعي: إذا قتل مسلما في دار الحرب في الغارة وهو لا يعلمه مسلما فلا عقل فيه ولا قود، وعليه الكفارة. وسواء أكان المسلم أسيرا، أو مستأمنا، أو رجلا أسلم هناك، وإن علمه مسلما فقتله فعليه القود انتهى ما نقله هذا المصنف. والذي يظهر من مدلول هذه الجمل إن الله تعالى بين أحكام المؤمن المقتول خطأ في هذه الجمل الثلاث ولذلك قابلها بقوله: ومن يقتل مؤمنا متعمدا، فهو المؤمن المقتول خطأ إن كان أهله مؤمنين أو معاهدين، فالتحرير والدية. ونزل المعاهدون في أخذ الدية منزلة المؤمنين، لأن أحكام المؤمنين جارية عليهم، وإن كان أهله حربيين فالتحرير فقط.
* (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) * قال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وغيرهم: وإن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم، وكفارته التحرير، وأداء الدية إليهم. وقال النخعي: ميراثه للمسلمين. وقرأها الحسن: وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، وهو مؤمن. وبهذا قال مالك. وقال ابن عباس، والشعبي، وإبراهيم أيضا، والزهري: المقتول من أهل العهد خطأ كان مؤمنا أو كافرا على عهد قومه، فيه الدية كدية المسلم والتحرير.
واختلف على هذا في دية المعاهد. فقال أبو حنيفة وغيره: ديته كدية المسلم. وروى ذلك عن أبي بكر وعمر. وقال مالك وأصحابه: نصف دية المسلم. وقال الشافعي وأبو ثور: ثلث دية المسلم. والذي يظهر من دلالة من التبعيضية أنها قيد في الجملة الأولى بكونه من قوم عدو، وقيد في الجملة الثانية بكونه من قوم معاهدين، والمعنى في النسب لا في الدين، لأنه مؤمن وهم كفار. فإذا تقيدت هاتان الجملتان دل ذلك على تقييد الأولى بأن يكون من المؤمنين في النسب، وهي من قتل مؤمنا خطأ كأنه قال: وأهله مؤمنون لا حربيون ولا معاهدون. ولا يمكن حمله على الإطلاق للتعارض والتعاند الذي بينه وبين الآيتين بعد.
وقال أبو بكر الرازي: قوله: وإن كان من قوم عدو، لكم استئناف
(٣٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 332 333 334 335 336 337 338 339 340 341 342 ... » »»