تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٣٣
فقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه، فنزلت. وقيل: نزلت في رجل كان يرعى غنما فقتله في بعض السرايا أبو الدرداء وهو يتشهد وساق غنمه، فعنفه رسول الله صلى الله عليه وسلم) فنزلت. وقيل: نزلت في أبي حذيفة بن اليمان حين قتل يوم أحد خطأ. وقيل غير ذلك انتهى.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما رغب في مقاتلة الكفار، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالمحاربة، ومنها أن يظن رجلا حربيا وهو مسلم فيقتله. وهذا التركيب تقدم نظيره في قوله: * (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) * وفي قوله: * (وما كان لنبى أن يغل) * وكان يغني الكلام هناك عن الكلام هنا، ولكن رأينا جمع ما قاله من وقفنا على كلامه من المفسرين هنا.
قال الزمخشري: ما كان لمؤمن: ما صلح له، ولا استقام، ولا لاق بحاله، كقوله: وما كان لنبي أن يغل، وما يكون لنا أن نعود، أن يقتل مؤمنا ابتداء غير قصاص إلا خطأ على وجه الخطأ. (فإن قلت): بما انتصب خطأ؟ (قلت): بأنه مفعول له أي: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده، ويجوز أن يكون حالا بمعنى: لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، وأن يكون صفة لمصدر أي: إلا قتلا خطأ. والمعنى: أن من شأن المؤمن أن تنتفي عنه وجوه قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافرا فيصيب مسلما، أو يرمي شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم. وقال ابن عطية: قال جمهور أهل التفسير: ما كان في إذن الله ولا في أمره للمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول، وهو الذي يكون فيه إلا بمعنى لكن، والتقدير: ولكن الخطأ قد يقع، ويتجه وجه آخر وهو أن تقدر كان بمعنى استقر ووجد. كأنه قال: وما وجد ولا تقرر ولا ساع لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانا، فيجيء الاستثناء على هذا غير منقطع، وتتضمن الآية على هذا إعظام العهد وبشاعة شأنه كما تقول: ما كان لك يا فلان إن تتكلم بهذا إلا ناسيا إعظاما للعمد والقصد، مع حظر الكلام به البتة.
وقال الراغب: إن قيل: أيجوز أن يقتل المؤمن خطأ حتى يقال: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ قيل قولك يجوز أو لا يجوز؟ إنما يقال في الأفعال الاختيارية المقصودة، فأما الخطأ فلا يقال فيه ذلك، وما كان لك أن تفعل كذا، وما كنت لتفعل كذا متقاربان، وهما لا يقالان بمعنى. وإن كان أكثر ما يقال الأول لما كان الإحجام عنه من قبل نفسه، أي: ما كان المؤمن ليقتل مؤمنا إلا خطأ ولهذا المعنى أراد من قال معناه: ما ينبغي للمؤمن أن يقتل مؤمنا متعمدا، لكن يقع ذلك منه خطأ. وكذا من قال: ليس في حكم الله أن يقتل المؤمن إلا خطأ. وقال الأصم: معناه ليس القتل لمؤمن بمتروك أن يقتضي له، إلا أن يكون قتله خطأ. وقال أبو عبد الله الرازي: وما كان أي: فيما آتاه الله، أو عهد إليه، أو ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك، والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف. وقال أبو هاشم: تقدير الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ويبقى مؤمنا، إلا أن يقتله خطأ، فيبقى حينئذ مؤمنا، وهذا الذي قاله أبو هاشم قاله السدي. قال السدي: قتل المؤمن المؤمن يخرجه عن أن يكون مؤمنا، إلا أن يكون خطأ، وليس هذا معتقد أهل السنة والجماعة. وقيل: هو نفي جواز قتل المؤمن، ومعناه: النهي، وأفاد دخول كان أنه لم يزل حكم الله. وقال الماتريدي: الإشكال أن الله تعالى نهى المؤمن عن القتل مطلقا، واستثنى الخطأ، والاستثناء من النفي إثبات، ومن التحريم إباحة، وقتل الخطأ ليس بمباح بالإجماع، وفي كونه حراما كلام انتهى.
وملخص ما بني على هذا أنه إن كان نفيا وأريد به معنى النهي كان استثناء
(٣٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 328 329 330 331 332 333 334 335 336 337 338 ... » »»