تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٣١
قال: إنهم مؤمنون، فالمعنى أنه تعالى أظهر نعمته على المسلمين، وأنه تعالى لو لم يهدهم لكانوا في جملة المسلطين عليكم.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين ما كان مكافتهم إلا لقذف الله الرعب في قلوبهم؟ ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه، فكانوا مسلطين مقاتلين غير كافين، فذلك معنى التسليط انتهى. وهذا على طريقته الاعتزالية. وهذا الذي قاله الزمخشري قاله أبو هاشم قبله. قال: أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء أن يفعل، وتسليط الله المشركين على المؤمنين ليس بأمر منه، وإنما هو بإزالة خوف المسلمين من قلوبهم، وتقوية أسباب الجرأة عليهم. والغرض بتسليطهم عليهم لأمور ثلاثة: أحدها: تأديبا لهم وعقوبة لما اجترحوا من الذنوب. الثاني: ابتلاء لصبرهم واختبارا لقوة إيمانهم وإخلاصهم كما قال: * (ولنبلونكم) * الآية. الثالث: لرفع درجاتهم وتكثير حسناتهم. أو المجموع وهو أقرب للصواب انتهى.
وأما غيرهما من المعتزلة فقال الجبائي: قد بينا أن القوم الذين استثنوا مؤمنون لا كافرون، وعلى هذا معنى الآية. ولو شاء الله لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم إن أقدمتهم على مقاتلتهم على سبيل الظلم. وقال الكعبي: إنه تعالى أخبر أنه لو شاء فعل، وهذا لا يفيد، إلا أنه قادر على الظلم، وهذا مذهبنا إلا أنا نقول: إنه تعالى لا يفعل الظلم، وليس في الآية دلالة على أنه شاء ذلك وأراده، انتهى كلامه.
وقال أهل السنة: في هذه الآية دليل على أنه تعالى لا يقبح منه تسليط الكافر على المؤمن وتقويته عليه.
وقرأ الجمهور: فيقاتلوكم بألف المفاعلة. وقرأ مجاهد وطائفة: فلقتلوكم على وزن ضربوكم. وقرأ الحسن والجحدري: فلقتلوكم بالتشديد، واللام في لقاتلوكم لام جواب لو، لأن المعطوف على الجواب جواب، كما لو قلت: لو قام زيد لقام عمرو ولقام بكر. وقال ابن عطية: واللام في لسلطهم جواب لو، وفي فلقاتلوكم لام المحاذاة والازدواج، لأنها بمثابة الأولى لو لم تكن الأولى كنت تقول: لقاتلوكم انتهى. وتسميته هذه اللام لام المحاذاة والازدواج تسمية غريبة، لم أر ذلك إلا في عبارة هذا الرجل، وعبارة مكي قبله.
* (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * إذا كان المستثنون كفارا فالاعتزال حقيقة لا يتهيأ إلا في حالة المواجهة في الحرب كأنه يقول: إذا اعتزلوكم بانفرادهم عن قومهم الذين يقاتلونكم فلا تقتلوهم. وقيل: أراد بالاعتزال هنا المهادنة، وسميت اعتزالا لأنها سبب الاعتزال عن القتال. والسلم هنا الانقياد قاله: الحسن، أو الصلح قاله: الربيع ومقاتل، أو الإسلام قاله: الحسن أيضا. وأما على من قال: إن المستثنين مؤمنون، فالمعنى أنهم إذ قد اعتزلوكم وأظهروا الإسلام فاتركوهم، فعلى هذا تكون في * (الذين أسلموا * ولم * جهد أيمانهم) * والمعنى: سبيلا إلى قتلهم ومقاتلتهم. وقرأ الجحدري: السلم بسكون اللام. وقرأ الحسن: بكسر السين، وسكون اللام.
* (ستجدون ءاخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم * كلما * ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) * لما ذكر صفة المحقين في المتاركة، المجدين في إلقاء السلم، نبه على طائفة أخرى مخادعة يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم يقولون لهم: نحن معكم وعلى دينكم، ويقولون للمسلمين كذلك إذا وجدوا. قيل: كانت أسد وغطفان بهذه الصفة فنزلت فيهم، قاله: مقاتل. وقيل: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي كان ينقل بين النبي صلى الله عليه وسلم) الأخبار قاله: السدي. وقيل: في قوم يجيئون من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم) رياء ويظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش يكفرون، ففضحهم الله تعالى، وأعلم أنهم ليسوا على صفة من تقدم قاله: مجاهد. وقيل: إنهم من أهل تهامة قاله: قتادة. وقيل: إنهم من المنافقين قاله: الحسن.
والظاهر من قوله: ستجدون آخرين، أنهم قوم غير المستثنين في قوله: * (إلا الذين يصلون) *. وذهب قوم: إلى أنها بمنزلة الآية الأولى، والقوم الذين نزلت فيهم هم الذين نزلت فيهم الأولى، وجاءت مؤكدة لمعنى الأولى مقررة لها. والسين في ستجدون ليست للاستقبال قالوا: إنما هي دالة
(٣٣١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 326 327 328 329 330 331 332 333 334 335 336 ... » »»