على استمرارهم على ذلك الفعل في الزمن المستقبل كقوله: * (سيقول السفهاء) * وما نزلت إلا بعد قوله: * (ما ولاهم عن قبلتهم) * فدخلت السين إشعارا بالاستمرار انتهى. ولا تحرير في قولهم: إن السين ليست للاستقبال وإنما تشعر بالاستمرار، بل السين للاستقبال، لكن ليس في ابتداء الفعل، لكن في استمراره أن يأمنوكم أي: يأمنوا أذاكم ويأمنوا أذى قومهم. والفتنة هنا: المحنة في إظهار الكفر. ومعنى أركسوا فيها رجعوا أقبح رجوع وأشنعه، وكانوا شرا فيها من كل عدو. وحكى أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال لأحدهم: قل ربي الخنفساء، وربي القردة، وربي العقرب، ونحوه فيقولها. وقرأ ابن وثاب والأعمش: ردوا بكسر الراء، لما أدغم نقل الكسرة إلى الراء. وقرأ عبد الله: ركسوا بضم الراء من غير ألف مخففا. وقال ابن جني عنه: بشد الكاف.
* (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * أمر تعالى بقتل هؤلاء في أي مكان ظفر بهم، على تقدير انتفاء الاعتزال وإلقاء السلم، وكف الأيدي. ومفهوم الشرط يدل على أنه إذا وجهوا الاعتزال وإلقاء السلم وكف الأيدي، لم يؤخذوا ولم يقتلوا.
قال ابن عطية: وهذه الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم. وتأمل فصاحة الكلام في أن ساقه في الصيغة المتقدمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال، وإيجاب إلقاء السلم، ونفى المقاتلة، إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له. وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفى الاعتزال، ونفى إلقاء السلم، إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين، والحكم سواء على السياقين. لأن الذين لم يجعل عليهم سبيلا لو لم يعتزلوا، لكان حكمهم، حكم هؤلاء الذين جعل عليهم السلطان المبين. وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان إذا لم يعتزلوا، لو اعتزلوا كان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم، ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا انتهى كلامه. وهو حسن. ولما كان أمر الفرقة الأولى أخف، رتب تعالى انتفاء جعل السبيل عليهم على تقدير سببين: وجود الاعتزال، وإلقاء السلم. ولما كان أمر هذه الفرقة المخادعة أشد، رتب أخذهم وقتلهم على وجود ثلاثة أشياء: نفي الاعتزال، ونفي إلقاء السلم، ونفي كف الأذى. كل ذلك على سبيل التوكيد في حقهم والتشديد.
* (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) * أي على أخذهم وقتلهم حجة واضحة، وذلك لظهور عداوتهم، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام، أو حجة ظاهرة حيث أذنا لكم في قتلهم. قال عكرمة: حيثما وقع السلطان في كتاب الله فالمراد به الحجة.
* (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا) * روي أن عياش بن أبي ربيعة وكان أخا أبي جهل لأمه، أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة وذلك قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يأويها سقف حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه الحارث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه وهو في أطم، ففتك منه أبو جهل في الزرود والغارب وقال: أليس محمد بحثك على صلة الرحم؟ انصرف وبر أمك وأنت على دينك، حتى نزل وذهب معهما، فلما أبعدا عن المدينة كتفاه وجلده كل واحد مائة جلدة، فقال للحرث: هذا أخي، فمن أنت يا حارث الله؟ علي إن وجدتك خاليا أن أقتلك. وقدما به على أمه فحلفت لا تحل كتافه أو يرتد، ففعل. ثم هاجر بعد ذلك، وأسلم الحارث، وهاجر فلقيه عياش بظهر قبا ولم يشعر بإسلامه، فأنحى عليه فقتله، ثم أخبر بإسلامه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم)