تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٣٩
فقال صلى الله عليه وسلم): * (لا أؤمنه في حل ولا حرم، وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة) وهذا السبب يخص عموم قوله: ومن يقتل، فيكون خاصا بالكافر، أو يكون على ما قال ابن عباس، قال: معنى متعمدا أي: مستحلا، فهذا. يؤول أيضا إلى الكفر. وأما إذا كانت عامة فيكون ذلك على تقدير شرط كسائر التوعدات على سائر المعاصي، والمعنى: فجزاؤه إن جازاه، أي: هو ذلك ومستحقه لعظم ذنبه، هذا مذهب أهل السنة. ويكون الخلود عبارة في حق المؤمن العاصي عن المكث الطويل، لا المقترن بالتأبيد، إذ لا يكون كذلك إلا في حق الكفار.
وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية، وأنها مخصصة بعمومها لقوله: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءوا) * واعتمدوا على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: نزلت الشديدة بعد الهينة، يريد نزلت: ومن يقتل مؤمنا بعدو يغفر ما دون ذلك، فكأنه قيل: ويغفر ما دون ذلك إلا من قتل عمدا. وقد نازعوا في دلالة من الشرطية على العموم. وقيل: هو لفظ يقع كثيرا للخصوص كقوله: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * وليس من حكم من المؤمنين بغير ما أنزل الله بكافر. وقال الشاعر:
* ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه * يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم * وإذا سلم العموم فقد دخله التخصيص بالإجماع من المعتزلة وأهل السنة فيمن شهد عليه بالقتل عمدا أو أقر بأنه قتل عمدا، وأتى السلطان أو الأولياء فأقيم عليه الحد وقتل، فهذا غير متبع في الآخرة. والوعيد غير صائر إليه إجماعا للحديث الصحيح من حديث عبادة: (أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له) وهذا تخصيص للعموم. وإذا دخله التخصيص فيكون مختصا بالكافر، ويشهد له سبب النزول كما قدمنا.
ولم تتعرض الآية لتوبة القاتل، وتكلم فيها المفسرون هنا. فقالت جماعة: لا تقبل توبته، روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس. وكان ابن عباس يقول: الشرك والقتل سهمان من مات عليهما خلد، وكان يقول: هذه الآية مدنية نسخت التي في الفرقان لأنها مكية. وكان ابن شهاب إذا سأله من يفهم منه أنه قتل قال له: توبتك مقبولة، ومن لم يقتل قال: لا توبة للقاتل. وروي عن ابن عباس في تفسير عبد بن حميد نحو من كلام ابن شهاب. وعن سفيان كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له. قال الزمخشري: وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلا. وفي الحديث: (من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله) والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها، ويسمعون هذه الأحاديث القطعية، وقول ابن عباس مع التوبة، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة، واتباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغيرتوبة، * (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها) * ثم ذكر الله تعالى التوبة في قتل الخطأ لما عسى أن يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ فيه حسم للأطماع وأي حسم، ولكن لا حياة لمن تنادي. (فإن قلت): هل فيها دليل على طرد من لم يتب من أهل الكبائر؟ (قلت): ما أبين الدليل فيها، وهو تناول قوله: ومن يقتل، أي قاتل كان من مسلم، أو كافر تائب، أو غير نائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل. فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله انتهى كلامه. وهو على طريقته الاعتزالية والتعرض لمخالفيه بالسب والتشنيع. وأما قوله: ما أبين الدليل فيها، فليس بين، لأن المدعي هل فيها دليل على خلود من لم يتب من الكبائر
(٣٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 334 335 336 337 338 339 340 341 342 343 344 ... » »»