تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٤٥
ثم الوصف في رتبة ثالثة. الثاني: أنه قد تقرر أن غيرا نكرة في أصل الوضع وإن أضيفت إلى معرفة هذا، هو المشهور، ومذهب سيبويه. وإن كانت قد تتعرف في بعض المواضع، فجعلها هنا صفة يخرجها عن أصل وضعها إما باعتقاد التعريف فيها، وإما باعتقاد أن القاعدين لما لم يكونوا ناسا معينين، كانت الألف واللام فيه جنسية، فأجرى مجرى النكرات حتى وصف بالنكرة، وهذا كله ضعيف. وأما قراءة النصب فهي على الاستثناء من القاعدين. وقيل: استثناء من المؤمنين، والأول أظهر لأنه المحدث عنه. وقيل: انتصب على الحال من القاعدين. وأما قراءة الجر فعلى الصفة للمؤمنين، كتخريج من خرج غير المغضوب عليهم على الصفة من * (الذين أنعمت عليهم) * ومن المؤمنين في موضع الحال من قوله: القاعدون. أي: كائنين من المؤمنين.
واختلفوا: هل أولو الضرر يساوون المجاهدين أم لا؟ فإن اعتبرنا مفهوم الصفة، أو قلنا بالأرجح من أن الاستثناء من النفي إثبات، لزمت المساواة. وقال ابن عطية: وهذا مردود، لأن الضرر لا يساوون المجاهدين، وغايتهم إن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر، وكذا قال ابن جريج: الاستثناء لرفع العقاب، لا لنيل الثواب. المعذور يستوفي في الأجر مع الذي خرج إلى الجهاد، إذ كان يتمنى لو كان قادرا لخرج. قال: استثنى المعذور من القاعدين، والاستثناء من النفي إثبات، فثبت الاستواء بين المجاهد والقاعد المعذور انتهى. وإنما نفي الاستواء فيما علم أنه منتف ضرورة لإذكاره ما بين القاعد بغير عذر، والمجاهد من التفاوت العظيم، فيأنف القاعد من انحطاط منزلته فيهتز للجهاد ويرغب فيه. ومثله: * (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته لينهضم إلى التعلم، ويرتقي عن حضيض الجهل إلى شرف العلم.
قال بعض العلماء: كان نزول هذه الآية في الوقت الذي كان الجهاد فيه تطوعا، والألم يكن لقوله: لا يستوي معنى، لأن من ترك الفرض لا يقال: إنه لا يستوي هو والآتي به، بل يلحق الوعيد بالتارك، ويرغب الآتي به في الثواب. وقال الماتريدي: نفى التساوي بين فاعل الجهاد وتاركه، لا يدل على أن الجهاد ما كان فرضا في ذلك الوقت. ألا ترى أن قوله تعالى: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) * نفي المساواة بين المؤمن والفاسق، والإيمان فرض. وقال تعالى: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) * الآية وقال: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، والعلم في كثير من الأشياء فرض. وإذ جاز نفي الاستواء بين فاعل التطوع وتاركه، فلأن يجوز بين فاعل الفرض وتاركه بطريق الأولى، وإنما لم يلحق الإثم تاركه لأنه فرض كفاية انتهى. والظاهر أن نفي هذا الاستواء ليس مخصوصا بقاعدة عن جهاد مخصوص، ولا مجاهد جهادا مخصوصا بل ذلك عام.
وعن ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. وعن مقاتل: إلى تبوك. وقال ابن عباس وغيره: أولوا الضرر هم أهل الأعذار. إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد. وفي الحديث: (لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر) وجاء هنا تقديم الأموال على الأنفس. وفي قوله: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * تقديم الأنفس على الأموال لتباين الغرضين، لأن المجاهد بائع، فأخر ذكرها تنبيها على أن المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب. والمشتري قدمت له النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد، وإنما يرعب أولا في الأنفس الغالي.
* (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) * الظاهر: أن المفضل عليهم هم القاعدون غير أولي الضرر، لأنهم هم الذين نفى التسوية بينهم، فذكر ما امتازوا به عليهم، وهو تفضيلهم عليهم بدرجة، فهذه الجملة بيان للجملة الأولى جواب سؤال مقدر، كان قائلا قال: ما لهم لا يستوون؟ فقيل: فضل الله المجاهدين، والمفضل عليهم هنا درجة هم المفضل عليهم آخرا درجات، وما بعدها وهم القاعدون غير
(٣٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 340 341 342 343 344 345 346 347 348 349 350 ... » »»