تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٤٨
مسموع تعدي لواحد نحو: سمعت كلام زيد، كغيره من أفعال الحواس. وإن دخل على ذات وجاء بعده فعل أو اسم في معناه نحو: سمعت زيدا يتكلم، وسمعت زيدا يقول كذا، ففي هذه المسألة خلاف. منهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم إن كان قبله نكرة كان صفة لها، أو معرفة كان حالا منها. ومنهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم هو في موضع المفعول الثاني لسمع، وجعل سمع مما يعدي إلى واحد إن دخل على مسموع، وإلى اثنين إن دخل على ذات، وهذا مذهب أبي علي الفارسي. والصحيح القول الأول، وهذا مقرر في علم النحو. فعلى هذا يكون ينادي في موضع الصفة لأن قبله نكره، وعلى مذهب أبي علي يكون في موضع المفعول الثاني. وذهب الزمخشري إلى القول الأول قال: تقول: سمعت رجلا يقول كذا، وسمعت زيدا يتكلم، لتوقع الفعل على الرجل، وتحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالا عنه، فأغناك عن ذكره. ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد. وإن يقال: سمعت كلام فلان، أو قوله انتهى كلامه. وقوله: ولولا الوصف أو الحال إلى آخره ليس كذلك، بل لا يكون وصف ولا حال، ويدخل سمع على ذات، لا على مسموع. وذلك إذا كان في الكلام ما يشعر بالمسموع وإن لم يكن وصفا ولا حالا، ومنه قوله تعالى: * (هل يسمعونكم إذ تدعون) * أغني ذكر ظرف الدعاء عن ذكر المسموع.
والمنادى هنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم). قال تعالى: * (وداعيا إلى الله بإذنه) * * (ادع إلى سبيل ربك) * قاله ابن جريج وابن زيد وغيرهما: أو القرآن، قاله: محمد بن كعب القرظي، قال: لأن كل المؤمنين لم يلقوا الرسول، فعلى الأول يكون وصفه بالنداء حقيقة، وعلى الثاني مجازا، وجمع بين قوله: مناديا ينادي، لأنه ذكر الأول مطلقا وقيد الثاني تفخيما لشأن المنادى، لأنه لا منادى أعظم من مناد ينادي للإيمان. وذلك أن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب، أو لإطفاء الثائرة، أو لإغاثة المكروب، أو لكفاية بعض النوازل، أو لبعض المنافع. فإذا قلت: ينادي للإيمان فقد رفعت من شأن المنادي وفخمته. واللام متعلقة بينادي، ويعدي نادي، ودعا، وندب باللام وبالي، كما يعدي بهما هدي لوقوع معنى الاختصاص، وانتهاء الغاية جميعا. ولهذا قال بعضهم: إن اللام بمعنى إلى. لما كان ينادي في معنى يدعو، حسن وصولها باللام بمعنى: إلى. وقيل: اللام لام العلة، أي لأجل الإيمان. وقيل: اللام بمعنى الباء، أي بالإيمان. والسماع محمول على حقيقته، أي سمعنا صوت مناد. قيل: ومن جعل المنادي هو القرآن، فالسماع عنده مجاز عن القبول، وأن مفسرة التقدير: أن آمنوا. وجوز أن تكون مصدرية وصلت بفعل الأمر، أي: بأن آمنوا. فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني لها موضع وهو الجر، أو النصب على الخلاف. وعطف فآمنا بالفاء مؤذن بتعجيل القبول، وتسبيب الإيمان عن السماع من غير تراخ، والمعنى: فآمنا بك أو بربنا.
* (ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا) * قال ابن عباس: الذنوب هي الكبائر، والسيئات هي الصغائر. ويؤيده: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) * وقيل: الذنوب ترك الطاعات، والسيئات فعل المعاصي. وقيل: غفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض، لكنه كرر للتأكيد، ولأنها مناح من الستر وإزالة حكم الذنوب بعد حصوله، والغفران والتكفير بمعنى، والذنوب والسيئات بمعنى، وجمع بينهما تأكيدا ومبالغة، وليكون في ذلك إلحاج في الدعاء. فقد روى: (إن الله يحب الملحين في الدعاء). وقيل: في التفكير معنى وهو: التغطية، ليأمنوا الفضوح. والكفارة هي الطاعة المغطية للسيئة، كالعتق والصيام والإطعام. ورجل مكفر بالسلاح، أي مغطى.
* (وتوفنا مع الابرار) * جمع بر، على زن فعل، كصلف. أو جمع بار على وزن فاعل كضارب، وأدغمت الراء في الراء. وهم: الطائعون لله، وتقدم معنى البر. وقيل: هم هنا الذين بروا الآباء والأبناء. ومع هنا مجاز عن الصحبة الزمانية إلى الصحبة في الوصف، أي: توفنا أبرارا معدودين في جملة الأبرار. والمعنى: اجعلنا ممن توفيتهم طائعين لك. وقيل: المعنى احشرنا معهم في الجنة.
* (ربنا وءاتنا وعدتنا على
(١٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 143 144 145 146 147 148 149 150 151 152 153 ... » »»