تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٨٥
القدر، وعن الشافعي القولان، وأكثر العلماء يوجبون الفدية بلبس المخيط وتغطية الرأس، أو بعضه ولبس الخفين، وتقليم الأظفار، ومس الطيب، وإماطة الأذى، وحلق شعر الجسد، أو مواضع الحجامة، الرجل والمرأة في ذلك سواء، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شيء من ذلك. وقال داود: لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد.
* (فإذا أمنتم) * يعني: من الإحصار، هذا الأمن مرتب تفسيره على تفسير الإحصار، فمن فسره هناك بالإحصار بالمرض لا بالعدو، وجعل الأمن هنا من المرض لا من العدو، وهو قول علقمة، وعروة. والمعنى: فإذا برئتم من مرضكم.
ومن فسره بالإحصار بالعدو لا بالمرض قال: هنا الأمن من العدو لا من المرض، والمعنى: فإذا أمنتم من خوفكم من العدو.
ومن فسر الإحصار بأنه من العدو والمرض ونحوه، فالأمن عنده هنا من جميع ذلك، والأمن سكون يحصل في القلب بعد اضطرابه. وقد جاء في الحديث: (الزكام أمان من الجذام) خرجه ابن ماجة، وجاء: من سبق العاطس بالحمد، أمن من الشوص واللوص والعلوص. أي: من وجع السن، ووجع الأذن، ووجع البطن.
والخطاب ظاهره أنه عام في المحصر وغيره، أي: فإذا كنتم في حال أمن وسعة، وهو قول ابن عباس وجماعة، وقال عبد الله بن الزبير، وعلقمة، وإبراهيم: الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم.
* (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * تقدم الكلام في المتاع في قوله: * (ومتاع إلى حين) * وفسر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين، لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج، وقيل: لتمتعه بكل ما لا يجوز فعله، من وقت حله من العمرة إلى وقت انشاء الحج.
واختلف في صورة هذا التمتع الذي في الآية، فقال عبد الله بن الزبير: هو فيمن أحصر حتى فاته الحج ثم قدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة، واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم يحج ويهدي.
وقال ابن جبير، وعلقمة، وإبراهيم، معناه: فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار، ولم تقضوا عمرة، تخرجون بها من إحرامكم بحجكم، ولكن حللتم حيث أحصرتم بالهدي، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة، واعتمرتم في أشهر الحج، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي.
وقال علي: أي: فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدي.
وقال السدي: فمن نسخ حجه بعمرة فجعله عمرة، واستمتع بعمرته إلى حجه.
وقال ابن عباس، وعطاء، وجماعة: هو الرجل تقدم معتمرا من أفق في أشهر الحج، فإذا قضى عمرته أقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج من عامة ذلك، فيكون مستمتعا بالإحلال إلى إحرامه بالحج، فمعنى التمتع: الإهلال بالعمرة، فيقيم حلالا يفعل ما يفعل الحلال بالحج، ثم يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات.
والآية محتملة لهذه الأقوال كلها، ولا خلاف بين العلماء في وقع الحج على ثلاثة انحاء. تمتع، وافراد، وقران. وقد بين ذلك في كتب الفقه.
ونهى عمر عن التمتع لعله لا يصح، وقد تأوله قوم على أنه فسخ الحج في العمرة، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا.
* (فما استيسر من الهدى) * تقدم الكلام على هذه الجملة تفسيرا وإعرابا في قوله: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) * فأغنى عن إعادته.
والفاء في: فإذا أمنتم، للعطف وفي: فمن تمتع، جواب الشرط، وفي: فما، جواب للشرط الثاني. ويقع الشرط وجوابه جوابا للشرط بالفاء، لا نعلم في ذلك خلافا لجواب نحو: إن دخلت الدار فإن كلمت زيدا فأنت طالق.
وهدي التمتع نسك عند أبي حنيفة لتوفيق الجمع بين العبادتين في سفره، ويأكل منه، وعند الشافعي: يجرى مجرى الجنايات لترك إحدى السفرتين، ولا يأكل منه، ويذبحه يوم
(٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 ... » »»