تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٦٣
الرجل يكون عليه مال ولا بينة عليه، فيجحد المال ويخاصم صاحبه. وهو يعلم أنه آثم؛ وقال عكرمة: هو الرجل يشتري السلعة فيردها ويرد معها دراهم، وقال ابن عباس، أيضا: هو أخذ المال بشهادة الزور، قال ابن عطية: ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع، لأن الغبن كأنه وهبة. انتهى. وهو صحيح.
والناصب للظرف: تأكلوا، والبينية مجاز إذ موضوعها أنها ظرف مكان، ثم تجوز فيها فاستعملت في أشخاص، ثم بين المعاني. وفي قوله: بينكم، يقع لما هم يتعاطونه من ذلك، لأن ما كان يطلع فيه بعضهم على بعض من المنكر أشنع مما لا يطلع فيه بعضهم على بعض، وهذا يرجح القول الأول بأن الإضافة ليست للمالكين إذ لو كانت كذلك لما احتيج هذا الظرف الدال على التخلل والاطلاع على ما يتعاطى من ذلك، وقيل: انتصاب: بينكم، على الحال من: أموالكم، فيتعلق بمحذوف أي: كائنة بينكم، وهو ضعيف، والباء في: بالباطل، للسبب وهي تتعلق: بتأكلوا، وجوزوا أن تكون بالباطل، حالا من الأموال، وأن تكون حالا من الفاعل.
* (وتدلوا بها إلى الحكام) * هو مجزوم بالعطف على النهي، أي ولا تدلوا بها إلى الحكام، وكذا هي في مصحف أبي، ولا تدلوا بإظهار لا الناهية. والظاهر، أن الضمير في: بها، عائد على الأموال، فنهوا عن أمرين: أحدهما: أخذ المال بالباطل، والثاني: صرفه لأخذه بالباطل، وأجاز الأخفش وغيره أن يكون منصوبا على جواز النهي بإضمار إن وجوزه الزمخشري، وحكى ابن عطية أنه قيل: تدلوا، في موضع نصب على الظرف، قال: وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه أن مضمرة انتهى.
ولم يقم دليل قاطع من لسان العرب على أن الظرف ينصب فتقول به، وأما إعراب الأخفش هنا أن هذا منصوب على جواب النهي، وتجويز الزمخشري ذلك هنا، فتلك مسألة: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، بالنصب.
قال النحويون: إذا نصبت كان الكلام نهيا عن الجمع بينهما، وهذا المعنى لا يصح في الآية لوجهين:
أحدهما: أن النهي عن الجمع لا يستلزم النهي عن كل واحد منهما على انفراده، والنهي عن كل واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما، لأن في الجمع بينهما حصول كل واحد منهما عنه ضرورة، ألا ترى أن أكل المال بالباطل حرام سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرمات؟.
والثاني: وهو أقوى، إن قوله لتأكلوا علة لما قبلها، فلو كان النهي عن الجمع لم تصلح العلة له، لأنه مركب من شيئين لا تصلح العلة أن يترتب على وجودهما، بل إنما يترتب على وجود أحدهما، وهو: الإدلاء بالأموال إلى الحكام. والإدلاء هنا قيل: معناه الإسراع بالخصومة في الأموال إلى الحكام، إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم. إما بأن لا يكون على الجاحد بينة أو يكونن المال أمانة: كمال اليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قول المدعي عليه، والباء على هذا القول للسبب، وقيل: معناه لا ترشوا بالأموال الحكام ليقضوا لكم بأكثر منها. قال ابن عطية: وهذا القول يترجح، لأن الحاكم مظنة الرشاء إلا من عصم، وهو الأقل، وأيضا: فإن اللفظتين متناسبتان تدلوا، من إرسال الدلو، والرشوة من الرشاء، كأنها يمد بها لتقضي الحاجة. انتهى كلامه. وهو حسن.
وقيل: المعنى لا تجنحوا بها إلى الحكام من قولهم: أدلى فلان بحجته، قام بها، وهو راجع لمعنى القول الأول، والضمير في: عائد على الأموال، كما قررناه، وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على شهادة الزور، أي: لا تدلوا بشهادة الزور إلى الحكام، فيحتمل على هذا القول: أن
(٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 ... » »»