تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٦٢
مشتهى بالطبع اشتهاء عظيما بحيث هو ألذ ما للإنسان من الملاذ الجسمانية شاق عليه ذلك ولا يحجزه عن معاطاته إلا التقوى، فلذلك ختمت هذه الآية بها أي: هم على رجاء من حصول التقوى لهم بالبيان الذي بين الله لهم.
* (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * قال مقاتل: نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي، وفي عدان بن أشوع الحضرمي اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) في أرض، وكان امرؤ القيس المطلوب، وعد أن الطالب، فأراد امرؤ القيس أن يحلف، فنزلت، فحكم عدان في أرضه ولم يخاصمه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام فحبس نفسه عما تعوده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار، ثم حبس نفسه بالتقييد في مكان تعبد الله تعالى صائما له، ممنوعا من اللذة الكبرى بالليل والنهار جدير أن لا يكون مطعمه ومشربه إلا من الحلال الخالص الذي ينور القلب، ويزيده بصيرة، ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة، فلذلك نهى عن أكل الحرام المفضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه، وتخلل أيضا بين آيات الصيام آية إجابة سؤال الداعي، وسؤال العباد الله تعالى، وقد جاء في الحديث: (إن من كان مطعمه حراما، وملبسه حراما، ومشربه حراما، ثم سأل الله أنى يستجاب له. فناسب أيضا النهي عن أكل المال الحرام.
ويجوز أن تكون المناسبة: أنه لما أوجب عليهم الصوم، كما أوجبه على من كان من قبلهم، ثم خالف بين أهل الكتاب وبينهم، فأحل لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم، أمرهم أن لا يوافقوهم في أكل الرشاء من ملوكهم وسفلتهم وما يتعاطونه من الربا، وما يستبيحونه من الأموال بالباطل، كما قال تعالى: * (ويشترون به ثمنا قليلا) * * (ليس علينا فى الاميين سبيل) * * (أكالون للسحت) * وأن يكونوا مخالفيهم قولا، وفعلا، وصوما، وفطرا، وكسبا، واعتقادا، ولذلك ورد لما ندب إلى السحور: (خالفوا اليهود) وكذلك أمرهم في الحيض مخالفتهم إذ عزم الصحابة على اعتزال الحيض، إذ نزل * (فاعتزلوا النساء في المحيض) * لاعتزال اليهود، بأن لا يؤاكلوهن، ولا يناموا معهن في بيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم): (افعلوا كل شيء إلا النكاح). فقالت اليهود: ما يريد هذا الرجل أن يترك من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه.
والمفهوم من قوله تعالى: ولا تأكلوا، الأكل المعروف، لأنه الحقيقة. وذكره دون سائر وجوه الاعتداء والاستيلاء، لأنه أهم الحوائج، وبه يقع إتلاف أكثر الأموال. ويجوز أن يكون الأكل هنا مجازا عبر به عن الأخذ والاستيلاء، وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين، وإضافة الأموال إلى المخاطبين. والمعنى: ولا يأكل بعضكم مال بعض، كقوله: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * أي: لا يقتل بعضكم بعضا، فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن تحتمه أن يكون منهيا ومنهيا عنه، وآكلا ومأكولا منه، فخلط الضمير لهذه الصلاحية، وكما يحرم أن يأكل يحرم أن يؤكل غيره، فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة، بل هي من باب الإضافة بالملابسة. وأجاز قوم الإضافة للمالكين، وفسروا الباطل بالملاهي والقيان والشرب، والبطالة بينكم معناه في معاملاتكم وأماناتكم، لقوله: تريدونها بينكم بالباطل: وقال الزجاج بالظلم، وقال غيره بالجهة التي لا تكون مشروعة فيدخل في ذلك الغضب، والنهب، والقمار، وحلوان الكاهن، والخيانة، والرشاء، وما يأخذه المنجمون، وكل ما لم يأذن في أخذه الشرع.
وقال ابن عباس: هذا في
(٦٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 ... » »»