تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٦٤
يكون الذين نهوا عن الإدلاء هم الشهود، ويكون الفريق من المال ما أخذوه على شهادة الزور، ويحتمل أن يكون الذين نهوا هم المشهود لهم، ويكون الفريق من المال هو الذي يأخذونه من أموال الناس، بسبب شهادة أولئك الشهور.
* (لتأكلوا فريقا) * أي: قطعة وطائفة * (من أموال الناس) * قيل. هي أموال الأيتام، وقيل: هي الودائع. والأولى العموم، وأن ذلك عبارة عن أخذ كل مال يتوصل إليه في الحكومة بغير حق، و: من أموال الناس، في موضع الصفة أي: فريقا كائنا من أموال الناس. * (بالإثم) * متعلق بقوله: لتأكلوا، وفسر بالحكم بشهادة الزور، وقيل: بالرشوة، وقيل: بالحلف الكاذب، وقيل: بالصلح، مع العلم بأن المقضي له ظالم، والأحسن العموم، فكل ما أخذ به المال وماله إلى الإثم فهو إثم، والأصل في الإثم التقصير في الأمر قال الشاعر:
* جمالية تعتلى بالرداف * إذا كذب الآثمات الهجيرا * أي: المقصرات، ثم جعل التقصير في أمر الله تعالى والذنب إثما.
والباء في: بالإثم للسبب، ويحتمل أن تكون للحال أي: متلبسين بالإثم، وهو الذنب، * (وأنتم تعلمون) * جملة حالية أي: أنكم مبطلون آثمون، وما أعد لكم من الجزاء على ذلك، وهذه مبالغة في الإقدام على المعصية مع العلم بها، وخصوصا حقوق العباد. وفي الحديث: (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإن ما أقضي له قطعة من نار).
وظاهر الحديث والآية تحريم ما أخذ من مال الناس بالإثم، وأن حكم الحاكم لا يبيح للخصم ما يعلم أنه حرام عليه، وهذا في الأموال باتفاق، وأما في العقود والفسوخ فاختلفوا في قضاء القاضي في الظاهر، ويكون الباطن خلافه بعقد أو فسخ عقد بشهادة زور، والمحكوم له يعلم بذلك.
فقال أبو حنيفة: هو نافذ، وهو كالإنشاء وإن كانوا شهود زور.
وقال الجمهور: ينفذ ظاهرا ولا ينفذ باطنا.
وفي قوله: * (وأنتم تعلمون) * دلالة على أن من لم يعلم أنه آثم، وحكم له الحاكم بأخذ مال، فإنه يجوز له أخذه، كأن يلقى لأبيه دينا وأقام البينة على ذلك الدين، فحكم له به الحاكم، فيجوز له أخذه وإن كان لا يعلم صحة ذلك، إذ من الجائز أن أباه وهبه، أو أن المدين قضاه، أو أنه مكره في الإقرار، لكنه غير عالم به بأنه مبطل فيما يأخذه. والأصل عدم براءة المقر، وعدم إكراهه، فيجوز له أن يأخذه.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء المؤمنين تقريبا لهم، وتحريكا لما يلقيه إليهم من وجوب الصيام، وأنه كتبه علينا كما كتب على من قبلنا تأسيا في هذا التكليف الشاق بمن قبلنا، فليس مخصوصا بنا، وأن ذلك كان لرجاء تقوانا له تعالى، ثم إنه قلل هذا التكليف بأن جعله: أياما معدودات أول يحصرها العد من قلتها، ثم خفف عن المريض والمسافر بجواز الفطر في أيام مرضه وسفره، وأوجب عليه قضاء عدتهاغ إذا صح وأقام، ثم ذكر أن من أطلق الصوم وأراد الفطر فأفطر فإنه يفدى باطعام مساكين، ثم ذكر أن التطوع بالخير، هو خير، وإن الصوم أفضل من الفطر، والفداء، ثم نسخ ذلك الحكم من صيام الأيام القلائل بوجوب صوم رمضان، وهكذا جرت العادة في التكاليف الشرعية يبتدأ فيها أولا بالأخف فالأخف،. ينتهي إلى الحد الذي هو الغاية المطلوبة في الشريعة، فيستقر الحكم.
ونبه على فضيلة هذا الشهر المفروض بأنه الشهر الذي أنزل فيه الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأمر تعالى من كان شهده أن يصومه، وعذر من كان مريضا أو مسافرا، فذكر أن عليه صوم عدة ما أفطر إذا صح وأقامه كحاله حين كلفه صوم تلك الأيام، ثم نبه تعالى على أن التخفيف عن المريض والمسافر هو لإرادته تعالى بالمكلفين التسير.
ثم ذكر أن مشروعية صوم الشهر، وإباحة الفطر للمريض والمسافر وإرادة اليسر بنا هو لتكميل العدة، ولتعظيم الله، ولرجاء الشكر، فقابل كل مشروع بما يناسبه، ثم لما ذكر تعالى تعظيم العباد لربهم والثناء عليه منهم، ذكر قربه بالمكانة، فإذا سألوه أجابهم، ولا تتأخر إجابته تعالى عنده عن وقت دعائه، ثم طلب منهم الاستجابة له إذا دعاهم كما هو يجيبهم إذا
(٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 ... » »»