تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٦١
قراءة من جمع فقرأ في المساجد.
وقال بعض الصوفية في قوله: * (ولا تباشروهن) * الآية. أخبر الله أن محل القربة مقدس عن اجتلاب الحظوظ. انتهى.
* (تلك حدود الله) * تلك مبتدأ مخبر عنه بجمع فلا يجوز أن يكون إشارة إلى ما نهى عنه في الاعتكاف، لأنه شيء واحد، بل هو إشارة إلى ما تضمنته آية الصيام من أولها إلى هنا. وكانت آية الصيام قد تضمنت عدة أوامر، والأمر بالشيء نهي عن ضده، فبهذا الاعتبار كانت عدة مناهي، ثم جاء أخرها النهي عن المباشرة في حالة الاعتكاف، فأطلق على الكل: حدود، تغليبا للمنطوق به، واعتبارا بتلك المناهي التي تضمنتها الأوامر. فقيل: حدود الله، واحتيج إلى هذا التأويل، لأن المأمور بفعله لا يقال فيه: فلا تقربوها، وحدود الله: شروطه، قاله السدي. أو: فرائضه، قاله شهر بن حوشب. أو: معاصيه، قاله الضحاك. وقال معناه الزمخشري، قال: محارمه ومناهيه، أو الحواجز هي الإباحة والحظر قاله ابن عطية.
وإضافة الحدود إلى الله تعالى هنا، وحيث ذكرت، تدل على المبالغة في عدم الالتباس بها، ولم تأت منكرة ولا معرفة بالألف واللام لهذا المعنى.
* (فلا تقربوها) * النهي عن القربان للحدود أبلغ من النهي عن الالتباس بها، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم): (إن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه). والرتع حول الحمى وقربانه واحد، وجاء هنا: فلا تقربوها، وفي مكان آخر: * (فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله) * وقوله: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده) *، لأنه غلب هنا جهة النهي، إذ هو المعقب بقوله: تلك حدود الله، وما كان منهيا عن فعله كان النهي عن قربانه أبلغ، وأما حيث جاء: فلا تعتدوها، فجاء عقب بيان عدد الطلاق، وذكر أحكام العدة والإيلاء والحيض، فناسب أن ينهي عن التعدي فيها، وهو مجاوزة الحد الذي حده الله فيها، وكذلك قوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده) * جاء بعد أحكام المواريث، وذكر أنصباء الوارث، والنظر في أموال الأيتام، وبيان عدد ما يحل من الزوجات، فناسب أن يذكر عقيب هذا كله التعدي الذي هو مجاوزة ما شرعه الله من هذه الأحكام إلى ما لم يشرعه. وجاء قوله: تلك حدود الله، عقيب قوله: * (وصية من الله) * ثم وعد من أطاع بالجنة، وأوعد من عصا وتعدى حدوده بالنار، فكل نهي من القربان والتعدي واقع في مكان مناسبته.
وقال أبو مسلم معنى: لا تقربوها: لا تتعرضوا لها بالتغيير، كقوله: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن) *.
* (كذالك يبين الله آياته) * أي: مثل ذلك البيان الذي سبق ذكره في ذكر أحكام الصوم وما يتعلق به في الألفاظ اليسيرة البليغة يبين آياته الدالة على بقية مشروعاته، وقال أبو مسلم: المراد بالآيات: الفرائض التي بينها، كأنه قال كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما أنزل. إنتهى كلامه. وهذا لا يتأتى إلا على اعتقاد أن تكون الكاف زائدة وأما إن كانت للتشبيه فلا بد من مشبه ومشبه به.
* (للناس) *: ظاهره العموم وقال ابن عطية: معناه خصوص فيمن يسره الله للهدى، بدلالة الآيات التي يتضمن * (إن الله يضل من يشاء) * انتهى كلامه ولا حاجة إلى دعوى الخصوص، بل الله تعالى يبين آياته للناس ويوضحها لهم، ويكسيها لهم حتى تصير جلية واضحة، ولا يلزم من تبينها تبين الناس لها، لأنك تقول: بينت له فما بين، كما تقول: علمته فما تعلم.
ونظر ابن عطية إلى أن معنى يبين، يجعل فيهم البيان، فلذلك ادعى أن المعنى على الخصوص، لأن الله تعالى كما جعل في قوم الهدى، جعل في قوم الضلال، فعلى هذا المفهوم يلزم أن يرد الخصوص على ما قررناه يبقى على دلالته الوضعية من العموم، وعلى تفسيرنا التبيين يكون ذلك إجماعا منا ومن المعتزلة، وعلى تفسيره ينازع فيه المعتزلين.
* (لعلهم يتقون) * قد تقدم أنه حيث ذكر التقوى فإنه يكون عقب أمر فيه مشقة، وكذلك جاء هنا لأن منع الإنسان من أمر
(٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 ... » »»