تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٦٠
بذلك فرقة، فالمنهي عنه الجماع، وقال الجمهور: يقع هنا على الجماع وما يتلذذ به، وانعقد الإجماع على أن هذا النهي نهي تحريم، وأن الاعتكاف يبطل بالجماع. وأما دواعي النكاح: كالنظرة واللمس والقبلة بشهوة فيفسد به الاعتكاف عند مالك، وقال أبو حنيفة: إن فعل فأنزل فسد، وقال المزني عن الشافعي: إن فعل فسد، وقال الشافعي، أيضا: لا يفسد من الوطء إلا بما مثله من الأجنبية يوجب، وصح في الحديث أن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو معتكف في المسجد، ولا شك أنها كانت تمسه. قالوا: فدل على أن اللمس بغير شهوة غير محظور، وإذا كانت المباشرة معنيا بها اللمس، وكان قد نهى عنه فالجماع أحرى وأولى، لأن فيه اللمس وزيادة، وكانت المباشرة المعني بها اللمس مقيدة بالشهوة.
والعكوف في الشرع عبارة عن حبس النفس في مكان للعبادة والتقرب إلى الله، وهو من الشرائع القديمة.
وقرأ قتادة: وأنتم عكفون، بغير ألف، والجملة في موضع الحال أي: لا تباشروهن في هذه الحالة، وظاهر الآية يقتضي جواز الإعتكاف، والإجماع على أنه ليس بواجب، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) اعتكف، فهو سنة، ولم تتعرض الآية لمطلوبيته، فنذكر شرائطه، وشرطه الصوم، وهو مروي عن علي، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، ومالك، والثوري والحسن بن صالح؛ وروي عن عائشة أن الصوم من سنة المعتكف. وقال جماعة من التابعين، منهم سعيد، وإبراهيم: ليس الصوم شرطا. وروي طاووس عن ابن عباس مثله، وبه قال الشافعي.
وظاهر الآية أنه لا يشترط تحديد في الزمان، بل كل ما يسمى لبثا في زمن ما، يسمى عكوفا. وهو مذهب الشافعي. وقال مالك: لا يعتكف أقل من عشرة أيام، هذا مشهور مذهبه، وروي عنه: أن أقلة يوم وليلة.
وظاهر إطلاق العكوف أيضا يقتضي جواز اعتكاف الليل والنهار، وأحدهما، فعلى هذا، لو نذر اعتكاف ليلة فقط صح، أو يوم فقط صح، وهو مذهب الشافعي وقال سحنون: لو نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه. وقال أبو حنيفة: لو نذر اعتكاف أيام لزمته بلياليها.
وفي الخروج من المعتكف، والاشتغال فيه بغير العبادة المقصودة، والدخول إليه، وفي مبطلاته أحكام كثيرة ذكرت في كتب الفقه.
وظاهر قوله: عاكفون في المساجد، أنه ليس من شرط الاعتكاف كونه في المساجد، لأن النهي عن الشيء مقيد بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال، إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطا في وقوعها، ونظير ذلك: لا تضرب زيدا وأنت راكب فرسا ولا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلا فرسا، فتبين من هذا أن الاستدلال بهذه الآية على اشتراط المسجد في الاعتكاف ضعيف، فذكر: المساجد، إنما هو لأن الاعتكاف غالبا لا يكون إلا فيها، لا أن ذلك شرط في الاعتكاف.
والظاهر من قوله: في المساجد، أنه لا يختص الاعتكاف بمسجد، بل كل مسجد هو محل للاعتكاف، وبه قال أبو قلابة، وابن عيينة، والشافعي، وداود الطبري، وابن المنذر، وهو أحد قولي مالك، والقول الآخر: أنه لا اعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه، وبه قال عبد الله، وعائشة، وإبراهيم، وابن جبير، وعروة وأبو جعفر.
وقال قوم: إنه لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة وهو مروي عن عبد الله وحذيفة.
وقال قوم: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي، وبه قال ابن المسيب، وهو موافق لما قبله، لأنها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وروى الحارث عن علي: أنه لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وظاهر الآية يدل على جواز الاعتكاف للرجال، وأما النساء فسكوت عنهن. وقال أبو حنيفة: تعتكف في مسجد بيتها لا في غيره، وقال مالك: تعتكف في مسجد جماعة ولا يعجبه في بيتها. وقال الشافعي: حيث شاءت.
وقرأ مجاهد، والأعمش: في المسجد، على الإفراد، وقال الأعمش: هو المسجد الحرام، والظاهر أنه للجنس. ويرجع هذا
(٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 ... » »»