تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٨١
* (وجعلنا النهار معاشا) * أي: عيشا، فيكون: المحيض بمعنى الحيض، والمصير بمعنى الصيرورة، على هذا شاذا. وذهب بعضهم إلى التخيير في المصدر بين أن تبنيه على مفعل بكسر العين، أو: مفعل بفتحها، وأما الزمان والمكان فبالكسر. ذهب إلى ذلك الزجاج، ورده عليه أبو علي، وذهب بعضهم إلى الاقتصار على السماع، فحيث بنت العرب المصدر على مفعل أو مفعل اتبعناه، وهذا المذهب أحوط.
* (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * ظاهره أنه استئناف، خبر من الله تعالى أخبر به أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب والجوارح إلا ما هو في وسع المكلف، ومقتضى إدراكه وبنيته، وانجلى بهذا أمر الخواطر الذي تأوله المسلمون في قوله: * (إن تبدوا) * الآية، وظهر تأويل من يقول: إنه لا يصح تكليف ما لا يطاق، وهذه الآية نظير. * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * * (وما جعل عليكم فى الدين من حرج) * * (فاتقوا الله ما استطعتم) *.
وقال الزمخشري: أي ما يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقها، ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود، وهذا إخبار عن عدله ورحمته، لقوله * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة. وقيل: هذا من كلام الرسول والمؤمنين، أي: وقالوا * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * والمعنى: أنهم لما قالوا * (سمعنا وأطعنا) * قالوا: كيف لا نسمع ذلك، ولا نطيع؟ وهو تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا؟ والوسع دون المجهود في المشقة، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان.
وانتصابه على أنه مفعول ثان ليكلف وقال ابن عطية: يكلف، يتعدى إلى مفعولين. أحدهما محذوف تقديره: عبادة أو شيئا. انتهى. فإن عنى أن أصله كذا، فهو صحيح، لأن قوله: إلا وسعها، استثناء مفرغ من المفعول الثاني، وإن عنى أنه محذوف في الصناعة، فليس كذلك. بل الثاني هو وسعها، نحو: ما أعطيت زيدا إلا درهما، ونحو: ما ضربت إلا زيدا. هذا في الصناعة هو المفعول، وإن كان أصله: ما أعطيت زيدا شيئا إلا درهما. و: ما ضربت أحدا إلا زيدا.
وقرأ ابن أبي عبلة: * (إلا وسعها) * جعله فعلا ماضيا. وأولوه على إضمار: ما، الموصولة، وعلى هذا يكون الموصول المفعول الثاني ليكلف، كما أن وسعها في قراءة الجمهور هو المفعول الثاني، وفيه ضعف من حيث حذف الموصول دون أن يدل عليه موصول آخر يقابله، كقول حسان:
* فمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصره سواء * أي: ومن ينصره، فحذف: من، لدلالة: من، المتقدمة. وينبغي أن لا يقاس حذف الموصول، لأنه وصلته كالجزء الواحد، ويجوز أن يكون مفعول: يكلف، الثاني محذوفا، لفهم المعنى، ويكون: وسعها، جملة في موضع الحال، التقدير: لا يكلف الله نفسا شيئا إلا وسعها، أي: وقد وسعها، وهذا التقدير أولى من حذف الموصول.
قال ابن عطية: وهذا يشير إلى قراءة ابن أبي عبلة، فيه تجوز لأنه مقلوب، وكان وجه اللفظ: إلا وسعته. كما قال: * (وسع كرسيه السماوات والارض) * * ( وسع كل شىء علما) * ولكن يجيء هذا من باب: أدخلت القلنسوة في رأسي، وفمي في الحجر. انتهى.
وتكلم ابن عطية هنا في تكليف ما لا يطاق، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين، والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه غير واقع.
* (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *. أي: ما كسبت من الحسنات واكتسبت من السيئات، قاله السدي، وجماعة المفسرين، لا خلاف في ذلك. والخواطر ليست من كسب الإنسان، والصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد، والقرآن ناطق بذلك. قال الله تعالى * (كل نفس بما كسبت رهينة) * وقال: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) * وقال: * (بل * من كسب سيئة وأحاطت به * خطيئة) * وقال: * (بغير ما اكتسبوا) *.
ومنهم من فرق فقال: الاكتساب أخص من الكسب، لأن الكسب ينقسم إلى كسب لنفسه ولغيره، والاكتساب
(٣٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 376 377 378 379 380 381 382 383 384 385 386 ... » »»