تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٧٩
مبتدأ ثان لشمول المؤمنين خاصة. و: آمن بالله، جملة في موضع خبر: كل، والجلمة، من: كل وخبره، في موضع خبر المؤمنين، والرابط لهذه الجملة بالمبتدأ الأول محذوف، وهو ضمير مجرور تقديره: كل منهم آمن، كقولههم: السمن منوان بدرهم، يريدون: منه بدرهم، والإيمان بالله هو: التصديق به، وبصفاته، ورفض الأصنام، وكل معبود سواه. والإيمان بملائكته هو اعتقاد وجودهم، وأنهم عباد الله، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم، والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمنهم كتاب الله، وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم) من ذلك، والإيمان برسله هو التصديق بأن الله أرسلهم لعباده.
وهذا الترتيب في غاية الفصاحة، لأن الإيمان بالله هو المرتبة الأولى، وهي التي يستبد بها العقل إذ وجود الصانع يقربه كل عاقل، والإيمان بملائكته ههي المرتبة الثانية، لأنهم كالوسائط بين الله وعباده، والإيمان بالكتب ههو الوحي الذي يتلقنه الملك من الله، يوصله إلى البشر، هي المرتبة الثالثة، والإيمان بالرسل الذين يقتبسون أنوار الوحي فهم متأخرون في الدرجة عن الكتب، هي المرتبة الرابعة وقد تقدم الكلام على شيء من هذا الترتيب في قوله: * (من كان عدوا لله وملئكته ورسله) * وقيل: الكلام في عرفان الحق لذاته، وعرفان الخير للعمل به واستكمال القوة النظرية بالعلم والقوة العملية، بفعل الخيرات، والأولى أشرف، فبدىء بها، وهو: الإيمان المذكور، والثانية هي المشار إليها بقوله * (سمعنا وأطعنا) * وقيل: للإنسان مبدأ وحال ومعاد، فالإيمان إشارة إلى المبدأ، و: سمعنا وأطعنا إشارة إلى الحال، و: غفرانك، وما بعده إشارة إلى المعاد.
وقرأ حمزة، والكسائي: وكتابه، على التوحيد، وباقي السبعة: وكتبه، على الجمع. فمن وحد أراد كل مكتوب، سمي المفعول بالمصدر، كقولهم: نسج اليمين أي: منسوجه قال أبو علي: معناه أن هذا الإفراد ليس كإفراد المصادر، وإن أريد بها الكثير، كقوله * (وادعوا ثبورا كثيرا) * ولكنه، كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة، نحو: كثر الدينار والدرهم، ومجيئها بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة، ومن الإضافة * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * وفي الحديث: (منعت العراق درهمها وقفيزها). يراد به: الكثير، كما يراد بما فيه لام التعريف. انتهى ملخصا. ومعناه أن المفرد المحلى بالألف واللام يعم أكثر من المفرد المضاف.
وقال الزمخشري: وقرأ ابن عباس: وكتابه، يريد القرآن. أو الجنس، وعنه: الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت: كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟.
قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس، والجنسية، قائمة في وحدان الجنس كلها، لم يخرج منه شيء، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع. انتهى كلامه. وليس كما ذكر، لأن الجمع إذا أضيف أو دخلته الألف واللام الجنسية صار عاما، ودلالة العام دلالة على كل فرد فرد، فلو قال: أعتقت عبيدي، يشمل ذلك كل عبد عبد، ودلالة الجمع أظهر في العموم من الواحد، سواء كانت فيه الألف واللام أم الإضافة، بل لا يذهب إلى العموم في الواحد إلا بقرينة لفظية، كأن يستثني منه، أو يوصف بالجمع، نحو: * (إن الإنسان * لفى * خسر * إلا الذين ءامنوا) * و: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، أو قرينة معنوية نحو: نية المؤمن أبلغ من علمه، وأقصى حاله أن يكون مثل الجمع العام إذا أربد به العموم، وحمل على اللفظ في قوله: آمن، فأفرد كقوله * (قل كل يعمل على شاكلته) *.
وقرأ يحيي بن يعمر: وكتبه ورسله، بإسكان التاء والسين، وروي ذلك عن نافع وقرأ الحسن: ورسله، بإسكان السين، وهي رواية عن أبي عمرو وقرأ عبد الله: وكتابه ولقائه ورسله.
* (لا نفرق بين أحد من رسله) * قرأ الجمهور بالنون، وقدره: يقولون لا نفرق، ويجوز أن يكون التقدير: يقول لا نفرق، لأنه يخبر عن نفسه. وعن غيره، فيكون: يقول، على اللفظ، و: يقولون، على المعنى بعد الحمل على اللفظ، وعلى كلا التقديرين فموضع هذا المقدر نصب على الحال، وجوز الحوفي وغيره أن يكون خبرا بعد خبر لكل.
وقرأ ابن جبير، وابن يعمر، وأبو زرعة بن
(٣٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 374 375 376 377 378 379 380 381 382 383 384 ... » »»