تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٧٦
والعقاب يستحقان بالعزم وسائر أفعال القلوب إذا كانت طاعة أو معصية.
وقال الزمخشري: من السوء وهذا حسن لأنه جاء بعد ذلك ذكر الغفران والتعذيب، لكن ذيل ذلك الزمخشري بقوله: فيغفر لمن يشاء، لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه، أو أضمر. ويعذب من يشاء من استوجب العقوبة بالإصرار. انتهى. وهذه نزعة اعتزالية، وأهل السنة يقولون: إن الغفران قد يكون من الله تعالى لمن مات مصرا على المعصية ولم يتب، فهو في المشيئة، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *.
ثم قال الزمخشري: ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان الوسواس، وحديث النفس، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد الله بن عمر، أنه تلاها فقال: لئن أخذنا الله بهذا لنهلكن، ثم بكى حتى سمع نشجه، فذكر لابن عباس فقال: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد، فنزل: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * انتهى كلامه.
وقال ابن عطية: في أنفسكم، يقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحب الفكر فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز. انتهى.
وقال بعضهم: إن هذه الآية مسنوخة بقوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * وينبغي أن يجعل هذا تخصيصا إذا قلنا: إن الوسوسة والهواجس مندرجة تحت ما في قوله: * (ما في أنفسكم) * والأصح أنها محكمة، وأنه تعالى يحاسبهم على ما علموا وما لم يعملوا مما ثبت في نفوسهم ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، وقيل: العذاب الذي يكون جزاء للخواطر هو مصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها وروي هذا المعنى عن عائشة.
ولما كان اللفظ مما يمكن أن يدخل فيه الخواطر، أشفق الصحابة، فبين الله ما أراد بها وخصصها، ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، والخواطر ليس دفعها في الوسع، وكان في هذا فرجهم وكشف كربهم.
والآية خبر، والنسخ لا يدخل الأخبار، وانجزم: يحاسبكم، على أنه جواب الشرط، وقيل: عبر عن العلم بالمحاسبة إذ من جملة تفاسير الحسيب: العالم، فالمعنى: أنه يعلم ما في السرائر والضمائر، وقيل: الجزاء مشروط بالمشيئة أو بعدم المحاسبة، ويكون التقدير: يحاسبكم إن شاء أو يحاسبكم إن لم يسمح.
وقرأ ابن عامر، وعاصم، ويزيد، ويعقوب، وسهل: فيغفر لمن يشاء ويعذب، بالرفع فيهما على القطع، ويجوز على وجهين: أحدهما: أن يجعل الفعل خبر مبتدأ محذوف. والآخر: أن يعطف جملة من فعل وفاعل على تقدم وقرأ باقي السبعة بالجزم عطفا على الجواب وقرأ ابن عباس، والأعرج، وأبو حيوة بالنصب فيهما على إضمار: أن، فينسبك منها مع ما بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم من الحساب، تقديره: يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب، وهذه الأوجه قد جاءت في قول الشاعر:
* فان يهلك أبو قابوس يهلك * ربيع الناس والشهر الحرام * * ونأخذ بعده بذناب عيش * أجب الظهر ليس له سنام * يروى بجزم: ونأخذ، ورفعه ونصبه وقرأ الجعفي، وخلاد، وطلحة بن مصرف: يغفر لمن يشاء، ويروى أنها كذلك في مصحف عبد الله. قال ابن جني: هي على البدل من: يحاسبكم، فهي تفسير للمحاسبة. انتهى. وليس بتفسير، بل هما مترتبان على المحاسبة، ومثال الجزم على البدل من الجزاء قوله * (ومن يفعل ذالك يلق أثاما * يضاعف له العذاب) *.
(٣٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 371 372 373 374 375 376 377 378 379 380 381 ... » »»