تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٧٠
والمشدد إذا كان مجزوما كهذا كانت حركته الفتحة لخفتها، لأنه من حيث أدغم لزم تحريكه، فلو فك ظهر فيه الجزم.
واحتمل هذا الفعل أن يكون مبنيا للفاعل فيكون الكاتب والشهيد قد نهيا أن يضارا أحدا بأن يزيد الكاتب في الكتابة، أو يحرف. وبأن يكتم الشاهد الشهادة، أو يغيرها أو يمتنع من أدائها قال معناه الحسن، وطاووس، وقتادة، وابن زيد واختاره: الزجاج لقوله بعد: * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، ويمتنع من الشهادة، حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أبرم الكاتب والشهيد، ولأنه تعالى قال، فيمن يمتنع من أداء الشهادة * (ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه) * والآثم والفاسق متقاربان وقال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء: بأن يقولا: علينا شغل ولنا حاجة.
واحتمل أن يكون مبنيا للمفعول، فنهى أن يضارهما أحد بأن يعنتا، ويشق عليهما في ترك أشغالهما، ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة قال معناه أيضا ابن عباس، ومجاهد، وطاووس، والضحاك، والسدي.
ويقوي هذا الاحتمال قراءة عمر: ولا يضار، بالفك وفتح الراء الأولى. رواها الضحاك عن ابن مسعود، وابن كثير عن مجاهد، واختاره الطبري لأن الخطاب من أول الآيات إنما هو للمكتوب له، وللمشهود له، وليس للشاهد والكاتب خطاب تقدم، إنما رده على أهل الكتابة والشهادة، فالنهي لهم أبين أن لا يضار الكاتب والشهيد فيشغلونهما عن شغلهما، وهم يجدون غيرهما. ورجح هذا القول بأنه لو كان خطابا للكاتب والشهيد لقيل: وإن تفعلا فإنه. فسوق بكما، وإذا كان خطابا للمداينين فالمنهيون عن الضرار هم، وحكى أبو عمرو الذاني عن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وابن أبي إسحاق: أن الراء الأولى مكسورة، وحكى عنهم أيضا فتحها، وفك الفعل. والفك لغة الحجاز، والإدغام لغة تميم.
وقرأ ابن القعقاع، وعمرو بن عبيد: ولا يضار، بجزم الراء، وهو ضعيف لأنه في التقدير جمع بين ثلاث سواكن، لكن الألف لمدها يجري مجرى المتحرك، فكأنه بقي ساكنان، والوقف عليه ممكن. ثم أجريا الوصل مجرى الوقف.
وقرأ عكرمة: ولا يضارر، بكسر الراء الأولى والفك، كاتبا ولا شهيدا بالنصب أي: لا يبدأهما صاحب الحق بضرر.
ووجوه المضارة لا تنحصر، وروي مقسم عن عكرمة أنه قرأ: ولا يضار، بالإدغام وكسر الراء لالتقاء الساكنين.
وقرأ ابن محيصن: ولا يضار، برفع الراء المشددة، وهي نفي معناه النهي. وقد تقدم تحسين مجيء النهي بصورة النفي، وذلك أن النهي إنما يكون عن ما يمكن وقوعه، فإذا برز في صورة النفي كان أبلغ، لأنه صار مما لا يقع، ولا ينبغي أن يقع.
* (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * ظاهره أن مفعول: تفعلوا، المحذوف راجع إلى المصدر المفهوم من قوله: ولا يضار، وإن تفعلوا لمضارة أو الضرار فإنه، أي الضرار، فسوق بكم أي: ملتبس بكم، أو تكون الباء ظرفية، أي: فيكم، وهذا أبلغ، إذ جعلوا محلا للفسق.
والخطاب في: تفعلوا، عائد الكاتب والشاهد، إذ كان قوله: ولا يضار، قد قدر مبنيا للفاعل، وأما إذا قدر مبنيا للمفعول فالخطاب للمشهود لهم. وقيل: هو راجع إلى ما وقع النهي عنه، والمعنى وإن تفعلوا شيئا مما نهيتكم عنه، أو تتركوا شيئا مما أمرتكم به، فهو عام في جميع التكاليف، فإنه فسوق بكم، أي: خروج عن أمر الله وطاعته.
* (واتقوا الله) * أي: في ترك الضرار، أو: في جميع أوامره ونواهيه، ولما كان قوله * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * خطابا على سبيل الوعيد، أمر بتقوى الله حتى لا يقع في الفسق.
* (ويعلمكم الله) * هذه جملة تذكر بنعم الله التي أشرفها: التعليم للعلوم، وهي جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: هي في موضع نصب على الحال من الفاعل في: واتقوا، تقديره: واتقوا الله مضمونا لكم التعليم والهداية. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون حالا مقدرة. انتهى. وهذا القول، أعني: الحال، ضعيف جدا، لأن المضارع الواقع حالا، لا يدخل عليه واو الحال إلا فيما شذ من نحو: قمت وأصك عينه. ولا ينبغي أن يحمل القرآن على الشذوذ.
* (والله بكل شيء عليم) * إشارة إلى احاطته تعالى بالمعلومات، فلا يشذ عنه منها شيء. وفيها
(٣٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 365 366 367 368 369 370 371 372 373 374 375 ... » »»