تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٦٨
تكتبوه مستقرا في الذمة إلى أجل حلوله.
* (ذالكم أقسط عند الله) * الإشارة إلى أقرب مذكور وهو الكتابة، وقيل الكتابة والاستشهاد وجميع ما تقدم مما يحصل به الضبط، و: أقسط، أعدل قيل: وفيه شذوذ، لأنه من الرباعي الذي على وزن: أفعل، يقال: أقسط الرجل أي عدل، ومنه وأقسطوا، وقد راموا خروجه عن الشذوذ الذي ذكروه، بأن يكون: أقسط، من قاسط على طريقة النسب بمعنى: ذي قسط، قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية: انظر هل هو من قسط بضم السين، كما تقول: أكرم من كرم. انتهى. وقيل: من القسط بالكسر، وهو العدل، وهو مصدر لم يشتق منه فعل، وليس من الإقساط، لأن أفعل لا يبنى من الأفعال.
وقال الزمخشري: فإن قلت: مم بنى فعلا التفضيل. أعني: أقسط. وأقوم.
قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام. انتهى.
لم ينص سيبويه على أن أفعل التفضيل. بني من أفعل، إنما يؤخذ ذلك بالاستدلال، لأنه نص في أول كتابه على أن بناء أفعل للتعجب يكون من: فعل وفعل وفعل وأفعل، فظاهر هذا أن أفعل الذي للتعجب يبني من أفعل، ونص النحويون على أن ما يبنى منه أفعل للتعجب يبني منه أفعل التفضيل، فما انقاس في التعجب: انقاس في التفضيل، وما شذ فيه شد فيه.
وقد اختلف النحويون في بناء أفعل للتعجب على ثلاثة مذاهب: الجواز، والمنع، والتفصيل. بين أن يكون الهمزة للنقل فلا يبني منه أفعل للتعجب، أو لا تكون للنقل، فيبنى منه. وزعم أن هذا مذهب سيبويه، وتؤول قوله: وأفعل على أنه أفعل الذي همزته لغير النقل، ومن منع ذلك مطلقا ضبط قول سيبويه. وأفعل على أنه على صيغة الأمر، ويعني أنه يكون فعل التعجب على أفعل، وبناؤه من: فعل وفعل وفعل وعلى أفعل وحجج هذه المذاهب مستوفاة في كتب النحو.
والذي ينبغي أن يحمل عليه أقسط هو أن يكون مبنيا من قسط الثلاثي بمعنى عدل قال ابن السيد في (الاقتضاب) ما نصبه: حكى ابن السكيت في كتاب الأضداد عن أبي عبيدة: قسط جار، وقسط عدل، وأقسط بالألف عدل لا غير. وقال ابن القطاع: قسط قسوطا وقسطا، جار وعدل ضد، فعلى هذا لا يكون شاذا.
ومعنى: أقسط عند الله. أعدل في حكم الله أن لا يقع التظالم.
* (وأقوم للشهادة) * إن كان من أقام ففيه شذوذ على قول بعضهم، ومن جعله مبنيا من قام بمعنى اعتدل فلا شذوذ فيه، وتقدم قول الزمخشري إنه جائز على مذهب سيبويه أن يكون من أقام، وقال أيضا: يجوز أن يكون على معنى النسب من قويم. انتهى.
وعد بعض النحويين في التعجب ما أقومه في الشذوذ، وجعله مبنيا من استقام، ويتعلق: للشهادة، بأقوم، وهو من حيث المعنى مفعول كما تقول: زيد أضرب لعمرو من خالد، ولا يجوز حذف هذه اللام والنصب إلا في الشعر كما قال الشاعر.
وأضرب منا بالسيوف القوانسا وقد تؤول على إضمار فعل أي: تضرب القوانس ومعنى: أقوم للشهادة، أثبت وأصح.
* (وأدنى * أن لا * ترتابوا) * أي أقرب لانتفاء الريبة وقرأ السلمي: أن لا يرتابوا بالياء، والمفضل عليه محذوف، وحسن حذفه كونه أفعل الذي للتفضيل وقع خبرا للمبتدأ، وتقديره: الكتب أقسط وأقوم وأدنى لكذا من عدم الكتب، وقدر: أدنى، لأن: لا ترتابوا، وإلى أن لا ترتابوا، و: من أن لا ترتابوا. ثم حذف حرف الجر فبقي منصوبا أو مجرورا على الخلاف الذي سبق.
ونسق هذه الإخبار في غاية الحسن، إذ بدىء أولا بالأشرف، وهو قوله * (أقسط عند الله) * أي: في حكم الله، فينبغي أن يتبع ما أمر به، إذ اتباعه هو متعلق الدين الإسلامي، وبنى لقوله: * (وأقوم للشهادة) * لأن ما بعد امتثال أمر الله هو الشهادة بعد الكتابة، وجاء بالياء. و * (أدنى أن * لا) * لأن انتفاء الريبة مترتب على طاعة الله في الكتابة والإشهاد، فعنهما تنشأ أقربية انتفاء الريبة، إذ ذلك هو الغاية في أن لا يقع ريبة، وذلك لا يتحصل إلا بالكتب والإشهاد غالبا، فيثلج الصدر بما كتب،
(٣٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 363 364 365 366 367 368 369 370 371 372 373 ... » »»