تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٧٥
أمانة من لم يستوثق بكاتب وشاهد ورهن، ومن الأمر لمن استوثق بتقوى الله المانعة من الإخلال بالأمانة، ومن النهي عن كتم الشهادة، ومن التنبيه على أن كاتمها مرتكب الإثم، ومن التهديد آخرها بقوله: * (والله بما تعملون عليم) * فانظر إلى هذه المبالغة والتأكيد في حفظ الأموال وصيانتها عن الضياع، وقد قرنها رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالنفوس والدماء، فقال: (من قتل دون ماله فهو شهيد). وقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم). ولصيانتها والمنع من إضاعتها، ومن التبذير فيها كان حجر الإفلاس، وحجر الجنون، وحجر الصغر، وحجر الرق، وحجر المرض، وحجر الإرتداد.
* (لله ما فى * السماوات وما في الارض) * قال الشعبي، وعكرمة: نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها، ورواه مجاهد ومقسم عن ابن عباس، قال مقاتل، والواقدي: نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين.
ومناسبتها ظاهرة، لأنه لما ذكر أن من كتم الشهادة فإن قلبه آثم، ذكر ما انطوى عليه الضمير، فكتمة أو أبداه، فإن الله يحاسبه به، ففيه وعيد وتهديد لمن كتم الشهادة، ولما علق الإثم بالقلب ذكر هنا الأنفس، فقال: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * وناسب ذكر هذه الآية خاتمة لهذه السورة لأنه تعالى ضمنها أكثر علم الأصول والفروع من: دلائل التوحيد، والنبوة، والمعاد، والصلاة، والزكاة، والقصاص، والصوم، والحج، والجهاد، والحيض، والطلاق، والعدة، والخلع، والإيلاء، والرضاعة، والربا، والبيع، وكيفية المداينة. فناسب تكليفه إيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السماوات وما في الأرض، فهو يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تعبداته وتكليفاته.
ولما كانت هذه التكاليف محل اعتقادها إنما هو الأنفس، وما تنطوي عليه من النيات، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة، نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخررة بقوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * فصفة الملك تدل على القدرة الباهرة، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير، فحصل بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين، وغاية الوعيد للعاصين.
والظاهر في: اللام، أنها للملك، وكان ملكا له لأنه تعالى هو المنشيء له، الخالق. وقيل: المعنى لله تدبير ما في السماوات وما في الأرض، وخص السماوات والأرض لأنها أعظم ما يرى من المخلوقات، وقدم السماوات لعظمها، وجاء بلفظ: ما، تغليبا لما لا يعقل على من يعقل، لأن الغالب فيما حوته إنما هو جماد وحيوان، لا يعقل، وأجناس ذلك كثيرة. وأما العاقل فأجناسه قليلة إذ هي ثلاثة: إنس وجن وملائكة.
* (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * ظاهر: ما، العموم، والمعنى: أن الحالتين من الإخفاء والإبداء بالنسبة إليه تعالى سواء، وإنما يتصف بكونه إبداء وإخفاء بالنسبة إلى المخلوقين لا إليه تعالى، لأن علمه ليس ناشئا عن وجود الأشياء، بل هو سابق بعلم الأشياء قبل الإيجاد، وبعد الإيجاد، وبعد الإعدام. بخلاف علم المخلوق، فإنه لا يعلم الشيء إلا بعد إيجاده، فعلمه محدث. وقد خصص هذا العموم فقال ابن عباس، وعكرمة، والشعبي، واختاره ابن جرير: هو في معنى الشهادة أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب، وقيل: من الاحتيال للربا، وقال مجاهد: من الشك واليقين، ومما يدل على أن الله تعالى يؤاخذ بما تجن القلوب، قوله: * (واعلموا أن الله يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه) *.
وبعد فإن المحبة والإرادة والعلم والجهل أفعال القلب وهي من أعظم أفعال العباد وقال القاضي عبد الجبار بين أن أفعال القلوب كأفعال الجوارح في أن الوعيد يتناولها، ويعني ما يلزم إظهاره إذا خفي، وما يلزم كتماته إذا ظهر مما يتعلق به الحقوق، ولم يرد بذلك ما يخطر بالقلب مما قد رفع فيه المأثم. انتهى كلامه. وإلى ما يهجس في النفس أشار، والله أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم) بقوله: (إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ولم تعمل به وتكلم) وقال: إن تظهروا العمل أو تسروه.
وقال أبو علي: يحاسب عباده على ما يخفون من أعمالهم وعلى ما يبدونه، فيغفر للمستحق ويعذب المستحق ودلت على أن الثواب
(٣٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 370 371 372 373 374 375 376 377 378 379 380 ... » »»