تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٣٧٣
ربه) * أي عذاب الله في أداء ما ائتمنه رب المال، وجمع بين قوله: الله ربه، تأكيدا الأمر التقوى في أداء الدين كما جمعهما في قوله: * (وليملل الذى عليه الحق) * فأمر بالتقوى حين الإقرار بالحق، وحين أداء ما لزمه من الدين، فاكتنفه الأمر بالتقوى حين الأخذ وحين الوفاء.
* (ولا تكتموا الشهادة) * هذا نهي تحريم، ألا ترى إلى الوعيد لمن كتمها؟ وموضع النهي حيث يخاف الشاهد ضياع الحق. وقال ابن عباس: على الشاهد أن يشهد حيث ما استشهد، ويخبر حيث ما استخبر. ولا تقل: أخبر بها عن الأمير، بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي.
وقرأ السملي: ولا يكتموا، بالياء على الغيبة.
* (ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه) * كتم الشهادة هو إخفاؤها بالامتناع من أدائها، والكتم من معاصي القلب، لأن الشهادة علم قام بالقلب، فلذلك علق الإثم به. وهو من التعبير بالبعض عن الكل: إلا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب. وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ وآكد، ألا ترى أنك تقول: أبصرته عيني؟ وسمعته أذني؟ ووعاه قلبي؟ فأسند الإثم إلى القلب إذ هو متعلق الإثم، ومكان اقترافه، وعنه يترجم اللسان. ولئلا يظن أن الكتمان من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وأفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها، لو خشع قلبه لخشعت جوارحه. وقراءة الجمهور: آثم، اسم فاعل من: أثم قلبه، و: قلبه، مرفوع به على الفاعلية، و: آثم، خبر: إن، وجوز الزمخشري أن يكون: آثم، خبرا مقدما، و: قلبه، مبتدأ. والجملة في موضع خبر: إن، وهذا الوجه لا يجيزه الكوفيون.
وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون يعني: آثم ابتداء وقلبه فاعل يسد مسد الخبر، والجملة خبر إن. انتهى. وهذا لا يصح على مذهب سيبويه وجمهور البصريين، لأن اسم الفاعل لم يعتمد على أداة نفي ولا أداة استفهام، نحو: أقائم الزيدان؟ وأقائم الزيدون؟ وما قائم الزيدان؟ لكنه يجوز على مذهب أبي الحسن، إذ يجيز: قائم الزيدان؟ فيرفع الزيدان باسم الفاعل دون اعتماد على أداة نفي ولا استفهام. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون: قلبه، بدلا على بدل بعض من كل، يعنى: أن يكون ب لا من الضمير المرفوع المستكن في: آثم، والإعراب الأول هو الوجه.
وقرأ قوم: قلبه، بالنصب، ونسبها ابن عطية إلى ابن أبي عبلة. وقال: قال مكي: هو على التفسير يعنى التمييز، ثم ضعف من أجل أنه معرفة. والكوفيون يجيزون مجيء التمييز معرفة. وقد خرجه بعضهم على أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به، نحو قولهم: مررت برجل حسن وجهه ومثله ما أنشد الكسائي رحمه الله تعالى:
* أنعتها إني من نعاتها * مدارة الأخفاف مجمراتها * * غلب الدفار وعفر يناتها * كوم الذرى وادقة سراتها * وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين جائز، وعلى مذهب المبرد ممنوع، وعلى مذهب سيبويه جائز في الشعر لا في الكلام، ويجوز أن ينتصب على البدل من اسم إن بدل بعض من كل، ولا مبالاة بالفصل بين البدل والمبدل منه بالخبر، لأن ذلك جائز. وقد فصلوا بالخبر بين الصفة والموصوف، نحو: زيد منطلق العاقل، نص عليه سيبويه، مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد، فأحرى في البدل، لأن الأصح أن العامل فيه هو غير العامل في المبدل منه.
ونقل الزمخشري وغيره: أن ابن أبي عبلة قرأ: أثم قلبه، بفتح الهمزة والثاء والميم وتشديد الثاء، جعله فعلا ماضيا. وقلبه بفتح الباء نصبا على
(٣٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 368 369 370 371 372 373 374 375 376 377 378 ... » »»