من صلته لا تضر والدة بولدها، فلا تسىء غذاءه وتعهده، ولا تفرط فيما ينبغي له، ولا تدفعه إلى الأب بعدما آلفها، ولا يضر الوالد به بأن ينزعه من يدها، أو يقصر في حقها، فتقصر هي في حق الولد. انتهى كلامه.
ويعني بقوله: أن تكون الباء من صلته، يعنى متعلقة بتضار، ويكون ضار بمعنى أضر، فاعل بمعنى أفعل، نحو: باعدته وأبعدته، وضاعفته وأضعفته، وكون فاعل بمعنى أفعل هو من المعاني التي وضع لها فاعل، تقول: أضر بفلان الجوع، فالجار والمجرور هو المفعول به من حيث المعنى، فلا يكون المفعول محذوفا، بخلاف التوجيه الأول، وهو أن تكون الباء للسبب، فيكون المفعول محذوفا كما قدرناه.
قيل: ويجوز أن يكون الضرار راجعا إلى الصبي، أي: لا يضار كل واحد منهما الصبي، فلا يترك رضاعه حتى يموت، ولا ينفق عليه الأب أو ينزعه من أمه حتى يضر بالصبي، وتكون الباء زائدة معناه: لا تضار والدة ولدها ولا مولود له ولده انتهى. فيكون: ضار، بمعنى: ضر، فيكون مما وافق فيه فاعل الفعل المجرد الذي هو: ضر، نحو قولهم: جاوزت الشيء وجزته، وواعدته ووعدته، وهو أحد المعاني التي جاء لها فاعل.
والظاهر أن الباء للسبب، ويبين ذلك قراءة من قرأ لا تضارر، براءين، الأولى مفتوحة، وهي قراءة عمر بن الخطاب.
وتأويل من تأول في الإدغام أن الفعل مبني للمفعول، فإذا كان الفعل مبنيا للمفعول تعين كون الباء للسبب، وامتنع توجيه الزمخشري أن: ضار به في معنى: أضر به، والتوجيه الآخر أن: ضار به بمعنى: ضره، وتكون الباء زائدة، ولا تنقاس زيادتها في المفعول، مع أن في التوجيهين إخراج فاعل عن المعنى الكثير فيه، وهو كون الاسمين شريكين في الفاعلية والمفعولية من حيث المعنى، وإن كان كل واحد منهما مرفوعا والآخر منصوبا.
وفي هذه الجمل الأربع من بلاغة المعنى ونصاعة للفظ ما لا يخفي على من تعاطى علم البيان.
فالجملة الأولى: أبرزت في صورة المبتدأ والخبر وجعل الخبر فعلا لأن الإرضاع مما يتجدد دائما، ثم أضيف الأولاد إلى الوالدات تنبيها على شفقتهن على الأولاد، وهزا لهن وحثا على الإرضاع، وقيد الإرضاع بمدة، وجعل ذلك لمن أراد الإتمام. وجاء الوالدات بلفظ العموم، وأضيف الأولاد لضمير العام ليعم، وجمع القلة إذا دخلته الألف واللام، أو أضيف إلى عام، عم. وقد تكلمنا على شيء من هذا في كتابنا المسمى (بالتكميل في شرح التسهيل).
والجملة الثانية: أبرزت أيضا في صورة المبتدأ والخبر، وجعل الخبر جارا ومجرورا بلفظ: على، الدالة على الاستعلاء المجازي والوجوب. فأكد بذلك مضمون الجملة، لأن من عادة المرء منع ما في يده من المال، وإهمال ما يجب عليه من الحقوق، فأكد ذلك. وقدم الخبر على سبيل الاعتناء به، وجاء الرزق مقدما على الكسوة، لأنه الأهم في بقاء الحياة، والمتكرر في كل يوم.
والجملة الثالثة: أبرزت في صورة الفعل ومرفوعة، وأتى بمرفوعه نكرة لأنه في سياق النفي، فيعم، ويتناول أولا ما سيق لأجله: وهو حكم الوالدات في الإرضاع، وحكم المولود له في الرزق والكسوة اللذين للوالدات.
والجملة الرابعة: كالثالثة، لأنها في سياق النفي، فتعم أيضا، وهي كالشرح للجملة قبلها، لأن النفس إذا لم تكلف إلا طاقتها لا يقع ضرر لا للوالدة ولا للمولود له، ولذلك جاءت غير معطوفة على الجملة قبلها، فلا يناسب العطف بخلاف الجملتين الأوليين، فإن كل جملة منهما مغايرة للأخرى، ومخصصة بحكم ليس في الأخرى، ولما كان تكليف النفس فوق الطاقة، ومضارة أحد الزوجين الآخر مما يتجدد كل وقت، أتى بالجملتين فعليتين، أدخل عليهما حرف النفي الذي هو: لا، الموضوع للاستقبال غالبا، وفي قراءة من جزم: لا تضار، أدخل حرف النهي المخلص المضارع للاستقبال، ونبه على محل الشفقة بقوله: بولدها، فأضاف الولد إليها، وبقوله: بولده، فأضاف الولد إليه، وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق. وقدم ذكر عدم مضارة الوالدة على عدم مضارة الوالد مراعاة للجملتين الأوليين، إذ بدىء فيهما بحكم الوالدات، وثنى بحكم الوالد في قوله: لا تضار، دلالة على أنه إذا اجتمع مؤنث ومذكر معطوفان، فالحكم في الفعل السابق عليهما للسابق منهما، تقول: قام زيد وهند وقامت هند وزيد، ويقوم زيد وهند، وتقوم هند وزيد، إلا إن كان المؤنث مجازيا بغير علامة تأنيث فيه فيحسن عدم إلحاق العلامة، كقوله تعالى: * (وجمع الشمس والقمر) *.
* (وعلى الوارث مثل ذالك) * هذا معطوف على قوله: * (وعلى المولود له) * والجملتان قبل هذا كالتفسير لقوله: بالمعروف، اعتراض بهما بين المتعاطفين.
وقرأ يحيى بن يعمر: وعلى الورثة مثل ذلك، بالجمع.
والظاهر في الوارث أنه وارث المولود له لعطفه