تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢١٩
والعدوان، وظلم النفس بتعويضها العذاب، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن العشرة، ومنافع الدنيا من عدم رغبة التزويج به لاشتهاره بهذا الفعل القبيح.
* (ولا تتخذوا آيات الله هزوا) * قال أبو الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول: طلقت وأنا لاعب، ويعتق وينكح ويقول مثل ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقال: (من طلق أو حرر أو نكح فزعم أنه لاعب فهو جد). وقال الزمخشري: أي جدوا في الأخذ بها، والعمل بما فيها، وارعوها حق رعايتها وألا فقد اتخذتموها هزوا ولعبا، ويقال لمن لم يجد في الأمر إنما أنت لاعب وهازي. إنتهى كلامه.
وقاله معناه جماعة من المفسرين، وقال ابن عطية، المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي، وخصها الكلبي بقوله: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * * (ولا تمسكوهن) *.
وقال الحسن: نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعبا وهازلا، أو راجع كذلك، والذي يظهر أنه تعالى لما أنزل آيات تضمنت الأمر والنهي في النكاح، وأمر الحيض والإيلاء، والطلاق والعدة، والرجعة والخلع، وترك المعاهدة، وكانت هذه أحكامها جارية بين الرجل وزوجته، وفيها إيجاب حقوق للزوجة على الزوج، وله عليها، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء والاغتفال بأمر شأنهن، وكن عندهم أقل من أن يكون لهن أمر أو حق على الزوج، فأنزل الله فيهن ما أنزل من الاحكام، وحد حدودا لا تتعدى، وأخبرهم أن من خالف فهو ظالم متعد، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله، التي منها هذه الآيات النازلة في شأن النساء، هزؤا، بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد، لأنها من أحكام الله، فلا فرق بينها وبين الآيات التي نزلت في سائر التكاليف التي بين العبد وربه، وبين العبد والناس.
وانتصب: هزؤا، على أنه مفعول ثان: لتتخذوا، وتقول: هزأ به هزءا استخف.
وقرأ حمزة: هزأ، بإسكان الزاي، وإذا وقف سهل الهمزة على مذهبه في تسهيل الهمز، وذكروا في كيفية تسهيله عنده فيه وجوها تذكر في علم القراءات، وهو من تخفيف فعل: كعنق، وقد تقدم الكلام في ذلك. قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وثانيه ففيه لغتان: التخفيف والتثقيل.
وقرأ هزوا بضم الزاي وابدال من الهمزة واوا، وذلك لأجل الضم.
وقرأ الجمهور: هزؤا بضمتين والهمز، قيل: وهو الأصل، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى: (أتتخذنا هزوا).
* (واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) * هذا أمر معطوف على أمر في المعنى، وهو: ولا تتخذوا آيات لله هزوا، والنعمة هنا ليست التاء فيها للوحدة، ولكنها بني عليها المصدر، ويريد: النعم الظاهرة والباطنة، وأجلها ما أنعم به من الإسلام ونبوة محمد علية الصلاة والسلام.
و: ما أنزل عليكم، معطوف على نعمة، وهو تخصيص بعد تعميم، إذ ما أنزل هو من النعمة، وهذا قد ذكرنا أنه يسمى التجريد، كقوله: * (وجبريل) * بعد ذكر الملائكة، وتقدم القول فيه، وأتى: بعليكم، تنبيها للمأمورين وتشريفا لهم، إذ في الحقيقة ما أنزل إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولكنه لما كنا مخاطبين بأحكامه، ومكلفين باتباعه، صار كأنه نزل علينا.
و: الكتاب، القرآن، و: الحكمة، هي السنة التي بها كمال الأحكام التي لم يتضمنها القرآن، والمبينة ما فيه من الإجمال. ودل هذا على أن السنة أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم)، كما قال تعالى: * (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى) *.
وقيل: وفي ظاهره رد على من زعم أن له الحكم بالاجتهاد، لأن ما يحكم به من السنة ينزل من الله عليه، فلا اجتهاد، وذكر: النعم، لا يراد به سردها على اللسان، وإنما المراد بلذكر الشكر عليها، لأن ذكر المسلم النعمة سبب لشكرها، فعبر بالسبب عن المسبب، فإن أريد بالنعمة المنعم به فيكون: عليكم، في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف، أي: كائنة عليكم، ويكون في ذلك تنبيه على أن نعمته تعالى منسحبة علينا، قد استعلت وتجللت وصارت كالظلة لنا، وإن أريد بالنعمة الإنعام فيكون: عليكم، متعلقا بلفظ النعمة، ويكون إذ ذاك مصدرا من: أنعم، على غير قياس، كنبات من أنبت.
وعليكم، الثانية متعلقة بأنزل، و: من، في موضع الحال، أي: كائنا من الكتاب، ويكون حالا من ما أنزل أو من الضمير العائد على الموصول
(٢١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 214 215 216 217 218 219 220 221 222 223 224 ... » »»