تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢١٨
ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، ويحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، قالوا: الإمساك بمعروف هو أن ينفق عليها، فإن لم يجد طلقها، فإذا لم يفعل خرج عن حد المعروف، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر الذي يلحقها بإقامتها عند من لا يقدر على نفقتها، حتى قال ابن المسيب: إن ذلك سنة.
وفي (صحيح) البخاري: تقول المرأة إما أن تطعمني، و إما أن تطلقني وقال عطاء، والزهري، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: لا يفرق بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمته لحكم الحاكم.
والقائلون بالفرقة اختلفوا، فقال مالك: هي طلقة رجعية لأنها فرقة بعد البناء لم يستكمل بها العدد، ولا كانت بعوض، ولا لضرر بالزوج، فكانت رجعية كضرر المولي. وقال الشافعي: هي طلقة بائنة، وقيل: بالمعروف من غير طلب ضراء بالمراجعة.
* (أو سرحوهن بمعروف) * أي: خلوهن حتى تنقضي عدتها، وتبين من غير ضرار، وعبر بالتسريح عن التخلية لأن مآلها إليه، إذ بانقضاء العدة حصلت البينونة.
* (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) * هذا كالتوكيد لقوله تعالى: * (فأمسكوهن بمعروف) * نهاهم أن لا يكون الإمساك ضرارا، وحكمة هذا النهي أن الأمر في قوله: * (فأمسكوهن بمعروف) * يحصل بإمساكها مرة بمعروف، هذا مدلول الأمر، ولا يتناول سائر الأوقات وجاء النهي ليتناول سائر الأوقات ليعمها، ولينبه على ما كانوا يفعلونه من الرجعة، ثم الطلاق، ثم الرجعة، ثم الطلاق على سبيل الضرار، فنهى عن هذه الفعلة القبيحة يخصوصها، تعظيما لهذا المرتكب الشيء الذي هو أعظم إيذاء النساء، حتى تبقى عدتها في ذوات الأشهر تسعة أشهر.
ومعنى: ضرارا، مضارة وهو مصدر ضار ضرارا ومضارة، وفسر بتطويل العدة، وسوء العشرة، وبتضييق النفقة، وهو أعم من هذا كله، فكل إمساك لأجل الضرر والعدوان فهو منهي عنه.
وانتصب: ضرارا، على أنه مفعول من أجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال، أي: مضارين لتعتدوا، أي: لتظلموهن، وقيل: لتلجئوهن إلى الافتداء.
واللام: لام كي، فإن كان ضرارا حالا تعلقت اللام به، أو: بلا تمسكوهن، إن كان مفعولا من أجله تعلقت اللام به، وكان علة للعلة، تقول: ضربت ابني تأديبا لينتفع، ولا يجوز أن يتعلق: بلا تمسكوهن، لأن الفعل لا يقضي من المفعول من أجله اثنين إلا بالعطف، أو على البدل، ولا يمكن هنا البدل لأجل اختلاف الإعراب، ومن جعل اللام للعاقبة جوز أن يتعلق: بلا تمسكوهن، فيكون الفعل قد تعدى إلى علة وإلى عاقبة، وهما مختلفان.
قوله تعالى * (ومن يفعل ذالك فقد ظلم نفسه) * ذلك إشارة إلى الإمساك على سبيل الضرار
(٢١٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 213 214 215 216 217 218 219 220 221 222 223 ... » »»