تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٧٢
ودل الجواب الثاني على جواز مخالطة اليتامى بما فيه إصلاح لهم، فيخلطه بنفسه في مناكحه وماله بماله في مؤونة وتجارة وغيرهما.
قيل: وقد انتظمت الآية على جواز المخالطة، فدلت على جواز المباهدة التي يفعلها المسافرون في الأسفار، وهي أن يخرج هذا شيئا من ماله، وهذا شيئا من ماله فيخلط وينفق يأكل الناس، وإن اختلف مقدار ما يأكلون، وإذا أبيح لك في مال اليتيم فهو في مال البالغ بطيب نفسه أجوز.
ونظير جواز المناهدة قصة أهل الكهف: * (فابعثوا أحدكم بورقكم) * الآية، وقد اختلف في بعض الأحكام التي قدمناها، فمن ذلك: شراء الوصي من مال اليتيم، والمضاربة فيه، وإنكاح الوصي بيتيمته من نفسه، وإنكاح اليتيم لابنته، وهذا مذكور في كتب الفقه.
وجعلهم إخوانا لوجهين: أحدهما: أخوة الدين، والثاني: لانتفاعهم بهم، إما في الثواب من الله تعالى وإما بما يأخذونه من أجرة عملهم في أموالهم، وكل من نفعك فهو أخوك.
وقال الباقر لشخص: رأيتك في قوم لم أعرفهم، فقال: هم إخواني، فقال: أفيهم من إذا احتجت أدخلت يدك في كمه فأخذت منه من غير استئذان؟ قال: لا، قال: إذن لستم بإخوان.
وفي قوله: * (فإخوانكم) * دليل على أن أطفال المؤمنين مؤمنون في الأحكام لتسمية الله تعالى إياهم إخوانا لنا.
* (والله يعلم المفسد من المصلح) * جملة معناها التحذير، أخبر تعالى فيها أنه عالم بالذي يفسد من الذي يصلح، ومعنى ذلك: أنه يجازي كلا منهما على الوصف الذي قام به، وكثيرا ما ينسب العلم إلى الله تعالى على سبيل التحذير، لأن من علم بالشيء جازى عليه، فهو تعبير بالسبب عن المسبب، و: يعلم، هنا متعد إلى واحد، وجاء الخبر هنا بالفعل المقتضى للتجدد، وإن كان علم الله لا يتحدد، لأنه قصد به العقاب والثواب للمفسد والمصلح، وهما وصفان يتجددان من الموصوف بهما، فتكرر ترتيب الجزاء عليهما لتكررهما، وتعلق العمل بالمفسد أولا ليقع الامساك عن الإفساد.
ومن، متعلقة بيعلم على تضمين ما يتعدى بمن، كأن المعنى: والله يميز بعلمه المفسد من المصلح.
وظاهر الألف واللام أنها للاستغراق في جميع أنواع المفسد والمصلح، والمصلح في مال اليتيم من جملة مدلولات ذلك، ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد، أي: المفسد في مال اليتيم من المصالح فيه، والمفسد بالإهمال في تربيته من المصلح له بالتأديب، وجاءت هذه الجملة بهذذا التقسيم لأن المخالطة على قسمين: مخالطة بإفساد، ومخالطة بإصلاح. ولأنه لما قيل: * (قل إصلاح لهم * خير) * فهم مقابله، وهو أن الإفساد شر، فجاء هذا التقسيم باعتبار الإصلاح. ومقابله * (ولو شاء الله لاعنتكم) * أي: لأخرجكم وشدد عليكم قاله ابن عباس، والسدي وغيرهما، أو: لأهلككم، قاله أبو عبيدة، أو: لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا قاله، ابن عباس، وهو معنى ما قبله، أو: لكلفكم ما يشق عليكم، قاله الزجاج، أو: لآثمككم بمخالطتهم أو: لضيق عليكم الأمر في مخالطتهم، قاله عطاء، أو: لحرم عليكم مخالطتهم، قاله ابن جرير. وهذه أقوال كلها متقاربة.
ومفعول: شاء، محذوف لدلالة الجواب عليه، التقدير: ولو شاء الله إعناتكم، واللام في الفعل الموجب الأكثر في لسان العرب المجيء بها فيه، وقرأ الجمهور لأعنتكم بتخفيف الهمزة، وهو الأصل، وقرأ البزي من طريق أبي ربيعة (بتليين الهمزة) وقرئ بطرح الهمزة والقاء حركتها على اللام كقراءة من قرأ: فلا اثم عليه، بطرح الهمزة.
قال أبو عبد الله نصر بن علي المعروف بابن مريم: لم يذكر ابن مجاهد هذا الحرف، وابن كثير لم يحذف الهمزة، وإنما لينها وحققها، فتوهموا أنها محذوفة، فإن الهمزة همزة قطع فلا تسقط حالة الوصل كما تسقط همزات الوصل عند الوصل. إنتهى كلامه. فجعل إسقاط الهمزة وهما، وقد نقلها غيره قراءة كماذ كرناه.
وفي هذه الجملة الشرطية إعلام وتذكير بإحسان الله وإنعامه على أوصياء اليتامى، إذ أزال إعناتهم
(١٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 167 168 169 170 171 172 173 174 175 176 177 ... » »»