تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٤٩
والمس هنا معناه: الإصابة، وهو حقيقة في المس باليد، فهو هنا مجاز.
وأجاز أبو البقاء أن تكون الجملة من قولهم: مستهم، في موضع الحال على إضمار قد، وفيه بعد، وتكون الحال إذ ذاك من ضمير الفاعل في: خلوا.
وتقدم شرح: البأساء والضراء، في قوله تعالى: * (والصابرين فى البأساء والضراء) * * (وزلزلوا) * أي أزعجوا إعاجا شديدا بالزلزلة، وبني الفعل للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، أي: وزلزلهم أعداؤهم.
* (حتى يقول الرسول) * قرأ الأعمش: وزلوا، و: يقول الرسول، بالواو بدل: حتى، وفي مصحف عبد الله: وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول.
وقرأ الجمهور: حتى، والفعل بعدها منصوب إما على الغاية، وأما على التعليل، أي: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول، أو: وزلزلوا كي يقول الرسول، والمعنى الأول أظهر، لأن المس والزلزال ليسا معلولين لقول الرسول والمؤمنين.
وقرأ نافع برفع، يقول: بعد حتى، وإذا كان المضارع بعد حتى فعل حال فلا يخلو أن يكون حالا في حين الإخبار، نحو: مرض حتى لا يرجونه، وإما أن يكون حالا قد مضت، فيحكيها على ما وقعت، فيرفع الفعل على أحد هذين الوجهين، والمراد به هنا المضي، فيكون حالا محكية، إذ المعنى: وزلزلوا فقال الرسول، وقد تكلمنا على مسائل: حتى، في كتاب (التكميل) وأشبعنا الكلام عليها هناك، وتقدم الكلام عليها في هذا الكتاب.
* (والذين ءامنوا معه) * يحتمل معه أن يكون منصوبا بيقول، ويحتمل أن يكون منصوبا بآمنوا.
* (متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) * متى: سؤال عن الوقت، فقيل: ذلك على سبيل الدعاء لله تعالى، والاستعلام لوقت النصر، فأجابهم الله تعالى فقال: ألا إن نصر الله قريب، وقيل: ذلك على سبيل الاستبطاء، إذ ما حصل لهم من الشدة والابتلاء والزلزال هو الغاية القصوى، وتناهى ذلك وتمادى بالمؤمنين إلى أن نطقوا بهذا الكلام، فقيل: ذلك لهم إجابة لهم إلى طلبهم من تعجيل النصر، والذي يقتضيه النظر أن تكون الجملتان داخلتين تحت القول، وأن الجملة الأولى من قول المؤمنين، قالوا ذلك استبطاء للنصر وضجرا مما نالهم من الشدة، والجملة الثانية من قول رسولهم إجابة لهم وإعلاما بقرب النصر، فتعود كل جملة لمن يناسبها، وصح نسبة المجموع للمجموع لا نسبة المجموع لكل نوع من القائلين.
وتقدم نظير هذا في بعض التخاريج لقوله تعالى: * (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * وإن قوله: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من قول إبليس، وإن قوله: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك من قول الملائكة عن إبليس، وكان الجواب ذلك لما انتظم إبليس في الخطاب مع الملائكة في قوله: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل فى الارض خليفة) *.
وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله؟ فيقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته، وقدم قول المؤمنين لتقدمه في الزمان.
قال ابن عطية وهذا تحكم وحمل الكلام على وجهه غير متعذر. انتهى. وقوله حسن، إذ التقديم والتأخير مما يختصان بالضرورة.
وفي قوله: والذين آمنوا، تفخيم لشأنهم حيث صرح بهم ظاهرا بهذا الوصف الشريف الذي هو الإيمان، ولم يأت، حتى يقول الرسول وهم، وهذا يدل على حذف ذلك الموصوف الذي قدرناه قبل مثل محنة المؤمنين الذين خلوا.
قال ابن عطية: وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول، والمؤمنين، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر، لا على شك ولا ارتياب، والرسول اسم الجنس، وذكره الله تعظيما للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول. انتهى كلامه.
واللائق بأحوال الرسل هو القول الذي ذكرنا أنه يقتضيه النظر، والرسول كما ذكر ابن عطية اسم الجنس لا واحد بعينه، وقيل: هو اليسع، وقيل: هو شعيب، وعلى هذا يكون الذين خلوا قوما بأعيانهم، وهم أتباع هؤلاء الرسل.
وحكى بعض المفسرين أن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم)، وأنزلة، هنا مضافة لأمته، ولا يدل على ما ذكر سياق الكلام، وعلى هذا القول قال بعضهم، وفي هذا الكلام إجمال، وتفصيله أن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم) قالوا: متى نصر الله؟ فقال الرسول: ألا إن نصر الله قريب.
فتلخص من هذه النقول أن مجموع الجملتين من كلام الرسول والمؤمنين على سبيل التفصيل، أو على سبيل أن الرسول والمؤمنين قال كل منهما الجملتين، فكأنهم قالوا:
قد صبرنا ثقة بوعدك، أو: على أن
(١٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 144 145 146 147 148 149 150 151 152 153 154 ... » »»