تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٣٨
التركيب، واقعة مواقعها، فالمعنى: أنهم أمروا أن يدخلوا في الإسلام، ثم أخبروا أن من زل جازاه الله العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، ثم قيل: لا ينتظرون في إيمانهم إلا ظهور آيات بينات، عنادا منهم، فقد أتتهم الآيات، ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم) في استبطاء إيمانهم مع ما أتى به لهم من الآيات، بقوله: * (سل بنى إسراءيل كم آتيناهم من آية بينة) * فما آمنوا بها بل بدلوا وغيروا، ثم توعد من بدل نعمة الله بالعقاب الشديد، فأنت ترى هذه المعاني متناسقة مرتبة الترتيب المعجز، باللفظ البليغ الموجز، فدعوى التقديم والتأخير المختص بضرورة الآشعار، وبنظم ذوي الانحصار، منزه عنها كلام الواحد القهار.
* (زين للذين كفروا الحيواة الدنيا) * نزلت في أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم، ويكذبون بالمعاد، ويسخرون من المؤمنين الفقراء، كعمار، وصهيب، وأبي عبيدة، وسالم، وعامر بن فهيرة، وخباب، وبلال، ويقولون: لو كان نبينا لتبعه أشرافنا، قاله ابن عباس، في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه.
وقال مقاتل: في عبد الله بن أبي، وأصحابه، كانوا يتنعمون ويسخرون من ضعفاء المؤمنين، ويقولون: أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.
وقال عطاء: في علماء اليهود من بني قريظة، والنضير، وقينقاع، سخروا من فقراء المهاجرين، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال، أسهل شيء وأيسره.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن بني إسرائيل أتتهم آيات واضحة من الله تعالى، وأنهم بدلوا، أخبر أن سبب ذلك التبديل هو الركون إلى الدنيا، والاستبشار بها، وتزيينها لهم، واستقامتهم للمؤمنين، فلبني إسرائيل من هذه الآية أكبر حظ لأنهم كانوا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، ويكذبون على كتاب الله، فيكتبون ما شاؤوا لينالوا حظا خسيسا من حظوظ الدنيا، ويقولون: هذا من عند الله.
وقراءة الجمهور: زين، على بناء الفعل للمفعول، ولا يحتاج إلى إثبات علامة تأنيث للفصل، ولكون المؤنث غير حقيقي التأنيث، وقرأ ابن أبي عبلة: زينت، بالتاء وتوجيهها ظاهر، لأن المسند إليه الفعل مؤنث، وحذف الفاعل لفهم المعنى، وهو: الله تعالى، يؤيد ذلك قراءة مجاهد، وحميد بن قيس، وأبي حيوة: زين، على البناء للفاعل، وفاعله ضمير يعود على الله تعالى، إذ قبله: * (فإن الله شديد العقاب) *.
وتزيينه تعالى إياها لهم بما وضع في طباعهم من المحبة لها، فيصير في نفوسهم ميل ورغبة فيها، أو بالشهوات التي خلقها فيهم، وإليه أشار بقوله: * (زين للناس حب الشهوات) * الآية، وإنما أحكمه من مصنوعاته وأتقنه وحسنه، فأعجبهم بهجتها، واستمالت قلوبهم فمالوا إليها كلية، وأعطوها من الرغبة فوق ما تستحقه.
وقال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، حين قدم عليه بالمال، قال: اللهم إنا لا نستطيع إلى أن نفرج بما زينت لنا.
قال الزمخشري: ويحتمل أن يكون الله قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها، أو جعل إمهال المزين تزيينا، ويدل عليه قراءة من قرأ: * (زين للذين كفروا الحيواة الدنيا) * على البناء للفاعل. إنتهى كلامه. وهو جار على مذهب المعتزلة بأن الله تعالى لا يخلق الشر، وإنما ذلك من خلق العبد، فلذلك تأول التزيين على الخذلان، أو على الإمهال، وقيل: الزين الشيطان، وتزيينه بتحسين ما قبح شرعا، وتقبيح ما حسن شرعا. والفرق بين التزيينين: أن تزيين الله بما ركبه ووضعه في الجبلة، وتزيين الشيطان بإذ كار ما وقع غفاله، وتحسينه بوساوسه إياها لهم، وقيل: المزين، نفوسهم كقوله: * (إن النفس لامارة بالسوء) * * (فطوعت له نفسه قتل أخيه) * * (وكذالك سولت لى نفسى) * وقيل: شركاؤهم من الجن والإنس، قال تعالى * (وكذالك زين لكثير من المشركين) * الآية وقال: * (شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض) *.
وقيل: المزين هذه الحياة الدنيا قال: * (اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو) *. وقيل: المزين المجموع وفي هذا الكلام تعريف المؤمنين بسخافة عقول الكفار حيث آثروا الفاني على الباقي.
* (ويسخرون من الذين ءامنوا) * الضمير عائد على الذين كفروا، وتقدم من هم، وكلك تقدم القول في: الذين آمنوا، في سبب النزول، ومعنى: يسخرون: يستهزئون
(١٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 133 134 135 136 137 138 139 140 141 142 143 ... » »»