تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٣٣
* فإنكما إن تنظراني ساعة * من الدهر تنفعي لدى أم جندب * ومفعول: ينظرون، هو ما بعد إلا، أي: ما ينتظرون إلا إتيان الله، وهو استثناء مفرع، قيل: وينظرون هنا ليست من النظر الذي هو تردد العين في المنظور إليه، لأنه لو كان من النظر لعدى بإلى، وكان مضافا إلى الوجه، وإنما هو من الانتظار. انتهى.
وهذا التعليل ليس بشيء لأنه يقال: هو من النظر، وهو تردد العين. وهو معدى بإلى، لكنها محذوفة، والتقدير: هل ينظرون إلا إلى أن يأتيهم الله؟ وحذف حرف الجر مع أن إذا لم يلبس قياس مطرد، ولا لبس هنا، فحذفت إلى، وقوله: وكان مضافا إلى الوجه يشير إلى قوله: * (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) * فكذلك ليس بلازم، قد نسب النظر إلى الذوات كثيرا كقوله: * (أفلا ينظرون إلى الإبل) * * (أرنى أنظر إليك) * والضمير في: ينظرون، عائد على الذالين، وهو التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة.
والإتيان: حقيقة في الانتقال من حيز إلى حيز، وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى، فروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذا من المكتوم الذي لا يفسر، ولم يزل السلف في هذا وأمثاله يؤمنون، ويكلون فهم معناه إلى علم المتكلم به، وهو الله تعالى.
والمتأخرون تأولوا الإتيان وإسناده على وجوه:
أحدهما: أنه إتيان على ما يليق بالله تعالى من غير انتقال.
الثاني: أنه عبر به عن المجازات لهم، والانتقام، كما قال: * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) * * (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) *.
الثالث: أن يكون متعلق الإتيان محذوفا، أي: أن يأتيهم الله بما وعدهم من الثواب، والعقاب، قاله الزجاج.
الرابع: أنه على حذف مضاف، التقدير: أمر الله، بمعنى: ما يفعله الله بهم، لا الأمر الذي مقابله النهي، ويبينه قوله، بعد: * (وقضى الامر) *.
الخامس: قدرته، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد.
السادس: أن في ظلل، بمعنى بظلل، فيكون: في، بمعنى: الباء، كما قال.
خبيرون في طعن الأباهر والكلى أي: بطعن، لأن خبيرا لا يتعدى إلا بالباء، كما. قال.
خبير بأدواء النساء طبيب قال الزجاج وغيره.
والأولى أن يكون المعنى: أمر الله، إذ قد صرح به في قوله: * (أو يأتى أمر ربك) * وتكون عبارة عن بأسه وعذابه، لأن هذه الآية إنما جاءت مجيء التهديد والوعيد، وقيل: المحذوف: آيات الله، فجعل مجيء آياته مجيئا له على التفخيم لشأنها، قاله في (المنتخب). ونقل عن ابن جرير أنه قال: يأتيهم بمحاسبتهم على الغمام على عرشه تحمله ثمانية من الملائكة، وقيل: الخطاب مع اليهود، وهم مشبهة، ويدل على أنه مع اليهود قول بعد: * (سل بنى إسراءيل) *، وإذا كان كذلك فالمعنى: أنهم لا يقبلون ذلك إلا أن يأتيهم الله، فالآية على ظاهرها، إذ المعنى: أن قوما ينتظرون إتيان الله، ولا يدل ذلك على أنهم محقون ولا مبطلون.
* (في ظلل من الغمام) * تقدم الكلام على ذلك في قوله: * (وظللنا عليكم الغمام) * ويستحيل على الذات المقدسة أن تحل في ظلة، وقيل: المقصود تصوير عظمة يوم القيامة وحصولها وشدتها، لأنه لا شيء أشد على المذنبين، وأهول، ومن وقت جمعهم وحضور أمهر الحكام وأكثرهم هيبة لفصل الخصومة، فيكون هذا من باب التمثيل، وإذا فسر بأن عذاب الله يأتيهم في ظلل من الغمام، فكان ذلك، لأنه أعظم، أو يأتيهم الشر من جهة الخير، لقوله: * (هاذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) * ولأنه إذا كان ذلك يوم القيامة فهو علامة لأشد الأهوال في ذلك اليوم، قال الله تعالى: * (ويوم تشقق السماء بالغمام) * ولأن الغمام ينزل قطرات غير محدودة، فكذلك العذاب غير محصورة، وقيل: إن العذاب لا يأتي في الظلل، بل المعنى تشبيه الأهوال بالظلل
(١٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 128 129 130 131 132 133 134 135 136 137 138 ... » »»