تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٣٥
أحدهما: الإيجاز في قوله: * (وقضى الامر) * فإن في هاتين الكلمتين يندرج في ضمنها جميع أحوال العباد مند خلقوا إلى يوم التناد، ومن هذا اليوم إلى الفصل بين العباد.
والثاني: الاختصاص بقوله: * (وإلى الله) * فاختص بذلك اليوم لانفراده فيه بالتصرف والحكم والملك. انتهى.
وقال السلمى: وقضي الأمر وصلوا إلى ما قضي لهم في الأزل من إحدى المنزلتين.
وقال جعفر: كشف عن حقيقة الأمر ونهيه.
وقال القشيري: انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير.
* (سل بنى إسراءيل) * الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، قال الزمخشري: أو لكل أحد.
وقرأ أبو عمرو، في رواية ابن عباس: أسأل. وقرأ قوم: إسل، وأصله إسأل، فنقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة التي هي عين، ولم تحذف همزة الوصل لأنه لم يعتد بحركة السين لعروضها، كما قالوا: ألحمر في الأحمر. وقرأ الجمهور: سل، فيحتمل وجهين: أحدهما: أن أصله إسأل، فلما نقل وحذف اعتد بالحركة، فحذف الهزة لتحرك ما بعدها، والوجه الآخر: أنه جاء على لغة من يجعل المادة من: سين، وواو، ولام، فيقول: سأل يسأل، فقال: سل، كما قال: خف، فلا يحتاج في مثل هذا إلى همزة وصل، وانحذفت عين الكلمة لالتقائها ساكنة مع اللام الساكنة، ولذلك تعود إذا تحركت الفاء نحو: خافا وخافوا وخافي.
ولما تقدم: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل) * وكان المعنى في ذلك استبطاء حق لهم في الإسلام، وأنهم لا ينظرون إلا آية عظيمة تلجئهم إلى الدخول في الإسلام، جاء هذا الأمر بسؤالهم عما جاءتهم من الآيات العظيمة، ولم تنفعهم تلك الآيات، فعدم إسلامهم مرتب على عنادهم واستصحاب لجاجهم، وهذا السؤال ليس سؤالا عما لا يعلم، إذ هو عالم أن بني إسرائيل آتاهم الله آيات بينات، وإنما هو سؤال عن معلوم، فهو تقريع وتوبيخ، وتقرير لهم على ما آتاهم الله من الآيات البينات، وأنها ما أجدت عندهم لقوله بعد: * (ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته) *.
وفي هذا السؤال أيضا تثبيت وزيادة، كما قال تعالى: * (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) * أو: زيادة يقين المؤمن، فالخطاب في اللفظ له صلى الله عليه وسلم)، والمراد: أمته، أو إعلام أهل الكتاب أن هذا القول من عند الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم) وقومه لم يكونوا يعرفون شيئا من قصص بني إسرائيل، ولا ما كان فيهم من الآيات قبل أن أنزل الله ذلك في كتابه:
* (بنى إسراءيل) * من كان بحضرته منهم / صلى الله عليه وسلم)، أو من آمن من به منهم، أو علماؤهم، أو أنبياؤهم، أقوال أربعة.
* (وكم) * في موضع نصب على أنها مفعول ثان * (لاتيناهم) * على مذهب الجمهور، أو على أنها مفعول أول على مذهب السهيلي على ما مر ذكره، وأجاز ابن عطية أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده، وجعل ذلك من باب الاشتغال، قال: وكم، في موضع نصب إما بفعل مضمر بعدها، لأن لها مصدر الكلام تقديره: كم آتيناهم، أو باتيانهم. انتهى. وهذا غير جائزا إن كان قوله: من آية تمييزا لكم، لأن الفعل المفسر لهذا الفعل المحذوف لم يعمل في ضمير الاسم الأول المنتصب بالفعل المحذوف ولا في سببيته، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون من باب الاشتغال. ونظير ما أجاز أن يقول: زيدا ضربت، فتعرب زيدا مفعولا بفعل محذوف يفسره ما بعده، التقدير: زيدا ضربت ضربت، وكذلك: الدرهم أعطيت زيدا، ولا نعمل أحدا ذهب إلى ما ذهب إليه، بل نصوص النحويين، سيبويه فمن دونه، على أن مثل هذا هو مفعول مقدم منصوب بالفعل بعده، وإن كان تمييز: كم، محذوفا.
وأطلقت: كم، على القوم أو الجماعة، فكان التقدير: كم من جماعة آتيناهم، فيجوز ذلك، إذ في الجملة المفسرة لذلك الفعل المحذوف ضمير عائد على: كم، وأجاز ابن عطية وغيره أن تكون: كم، في موضع رفع بالابتداء، والجملة من قوله: آتيناهم، في موضع الخبر، والعائد محذوف، التقدير: آتيناهموه، أو آتيناهموها، وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر، أو في شاذ من القرآن، كقراءة من قرأ * (أفحكم الجاهلية يبغون) * برفع الحكم، وقال ابن مالك: لو كان المبتدأ غير: كل، والضمير مفعول به، لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلا في الاضطرار، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار، ويرونه ضعيفا انتهى. فإذا كان لا يجوز إلا في الاضطرار،
(١٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 130 131 132 133 134 135 136 137 138 139 140 ... » »»