تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٣٠
عقيب صفة المنافقين، وعلى هذا الاختلاف في سبب النزول اختلفت أقاويل أهل التفسير.
وقرأ نافع، وابن كثير، والكسائي: بفتح السين في السلم، وكذلك في الأنفال: * (وإن جنحوا للسلم) * وفي القتال: * (وتدعوا إلى السلم) *.
واختلف في السلم هنا، فقيل: هو الإسلام، لأن الإسلام: قد يسمى: سلما بكسر السين، وقد يروى فيه الفتح، كما روي في السلم الذي هو الصلح الفتح والكسر، إلا أن الفتح في السلم الذي هو الإسلام قليل، وجوز أبو علي الفارسي أن يكون السلم هنا هو الذي بمعنى الصلح، لأن الإسلام صلح على الحقيقة، ألا ترى أنه لا قتال بين أهله، وأنهم يد واحدة على من سواهم؟ فإن كان الخطاب لابن سلام وأصحابه فقد أمروا بالدخول في شرائع الإسلام، وأن لا يبقوا على شيء من شرائع أهل الكتاب التي لا توافق شرائع الإسلام، وإن كان الخطاب لأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بما سبق من أنبيائهم ادخلوا في هذه الشريعة، وهي لهم، كأنه قيل: يا من سبق له الإيمان بالتوراة والإنجيل، وهما دالان على صدق هذه الشريعة، ادخلوا في هذه الشريعة، وإن كان الخطاب للمسلمين فالمعنى: يا من آمن بقلبه، وصدق، ادخل في شرائع الإسلام، واجمع إلى الإيمان الإسلام. وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم) الإيمان والإسلام في حديث سؤال جبريل حين سأله عن حقيقة كل واحد منهما. وإن كان الخطاب للمنافقين، فالمعنى: يا من آمن بلسانه، ادخل في الإسلام بالقلب حتى يطابق القول الاعتقاد.
والظاهرمن هذه الأقوال أنه خطاب للمؤمنين، أمروا بامتثال شرائع الإسلام، أو بالانقياد، والرضى وعدم الاضطرار، أو بترك الانتقام، وأمروا كلهم بالائتلاف وترك الاختلاف، ولذلك جاء بقوله * (كافة) * وانتصاب * (كافة) * على الحال من الفاعل في: ادخلوا، والمعنى ادخلوا في السلم جميعا، وهي حال تؤكد معنى العموم، فتفيد معنى: كل، فإذا قلت: قام الناس كافة، فالمعنى قاموا كلهم، وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون حالا من السلم، أي في شرائع الإسلام كلها، أمروا بأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون: كافة، حالا من السلم، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، قال الشاعر:
* السلم تأخذ منها ما رضيت به * والحرب تكفيك من أنفاسها جرع * على أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها، وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة، أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها، وأن لا يخلوا بشيء منها.
وعن عبد الله بن سلام أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقيم على السبت، وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل.
و: كافة، من الكف، كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم. انتهى كلام الزمخشري. وتعليله جواز أن كون: كافة، حالا من السلم بقوله: لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، ليس بشيء، لأن التاء في: كافة، وإن كان أصلها للتأنيث، ليست فيها إذا كانت حالا للتأنيث، بل صار هذا نقلا محضا إلى معنى: جميع وكل، كما صار: قاطبة، وعامة، إذا كان حالا نقلا محضا إلى معنى: كل وجميع. فإذا قلت: قام الناس كافة، أو قاطبة، أو عامة، فلا يدل شيء من هذه الألفاظ على التأنيث، كما لا يدل عليه: كل، ولا جميع.
وتوكيده بقوله: وفي شعب الإسلام وشرائعه كلها، هو
(١٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 125 126 127 128 129 130 131 132 133 134 135 ... » »»